(٣) الحزب الشيوعي في الأردن رداء الصمت اتجاه التنوير

 

 

سليم النجار

في زمن تكاد فيه لغة التنوير تتوارى خلف ضجيج الخطابات الاستهلاكية، وفي عصر تُستنزف فيه المصطلحات، والمفاهيم مشوشة في الخطاب السياسي الثقافي الشيوعي في الأردن،
الذي بات محوريًا منذ انطلاقة الحزب الشيوعي في الأردن، نتيجة الأحزاب الشيوعية التي انتشرت في الوطن العربي كالنار في الهشيم. وبالتالي تفضي إلى سوء فهم وسوء حوار نتيجة التحديد العشوائي لمصطلحات في صلب الفكر الماركسي الذي هبط كـالباراشوت في المجتمع الأردني، الذي لم يكن حاجة ضرورية أو مطلبية، بل كان تجاوبًا مع موضة انتشار الشيوعية في العالم، والأردن لم يكن استثناء.

وبالتالي هذه الموضة التي أخذت صفة السمة جعلت التنافر والعجز عن الوصول إلى فهم واضح لطبيعة المجتمع الأردني. وأقصد بالفهم، الفهم المتبادل للأولويات غير المتوافق عليها بين القوى السياسية في الأردن، وتحديدًا طبيعة تركيبة المجتمع الأردني الذي يتكون من فلاحين وبدو ولاجئين فلسطينيين الذين قدموا إلى الأردن بموجات كبيرة بعد نكبة فلسطين عام ١٩٤٨، وبعض الشرائح الاجتماعية الذين قطنوا في الأردن مثل السوريين بمختلف طوائفهم الدينية ومشاربهم السياسية، واللبنانيين.

هذه التركيبة المتنوعة التي كان على الحزب الاستفادة منها وإثراء تجربته الثقافية والسياسية، الذي حصل على أرض الواقع هو التعامل مع هذا التنوع الثقافي والسياسي كقطعة جامدة، تم التعامل معها ضمن منظور ضيق، وفُرض عليها شعار فضفاض “تحرير فلسطين”، ولم يجرؤ أحد على التساؤل: هل كان فعلًا هذا الشعار له الأولوية في مجتمعنا؟ بمعنى الصمت عن التطورات الكبيرة التي حصلت في الأردن على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية، والديمغرافية البشرية التي توسعت بشكل غير موضوعي، بل حصلت نتيجة الهزائم التي تعرض لها العرب، وكانت نكبة ٤٨ مفصلًا هامًا في حياتنا، أثرت بشكل كبير وعميق على كل مجريات حياتنا اليومية.

الحزب الذي بقي مشاهدًا سلبيًا، وبدل طرح أسئلة موضوعية على هذه التغيرات المتسارعة، استبدل كل هذه التغيرات بالانحياز بشكل لافت، إن لم نقل “الهوس”، بالدخول في أتون الصراع في الحرب الباردة بين قوتين عظميين، أمريكا والاتحاد السوفيتي. ونتيجة هذا الخلل المعرفي، تم استحضار مصطلحات عرجاء لا معنى لها، لتكون المعيار والبوصلة للحزب. وشاعت بين عدد لا بأس به من النخب الأردنية مصطلحات كالبرجوازية الوطنية، والرأسمالية، بل إن البعض من هذه النخب بالغ في النقل لهذه المصطلحات، وبدأ يطلق أوصافًا مثل “الكمبرادور” على أصحاب الصناعات البسيطة، مما أدى إلى شرخ أخلاقي بين هذه الفئات الطامحة إلى خلق صناعات قابلة للتطور، وفئات واسعة من شرائح المجتمع الأردني.

وأصبح التناقض والصراع الشكلي محور رؤية الحزب تجاه المجتمع الأردني. هذا الخلل الذي حصل وما زال، في ظل غياب مفكرين شيوعيين قريبين من الحزب، أو منخرطين فيه. والأخطر من ذلك كله، غياب التحليل المعرفي، “منطق التفكير” الذي كان ينتج تلك الرؤى السياسية المرتبطة بالانحياز لموقف “الاتحاد السوفيتي”، الذي كان يتعامل مع الحزب كفصيل سياسي خاضع لمنظومته السياسية. ولا أجافي الصواب إن قلت: “مليشيات” تردد شعارات يتم تصنيعها في الاتحاد السوفيتي وتصديرها لمجتمعنا، الذي رفض هذه السلعة بمختلف شرائحه، ولكل أسبابه.

لست أذكر في حياتي الثقافية سؤالًا قد ألحّ عليّ كما ألحّ سؤال: من نحن؟ قد يبدو للوهلة الأولى أن ثمة تناقضًا أو ما يشبه التناقض بين الحدين، لأنه إذا كنا نؤمن بالفكر الماركسي، لماذا لم تنجح هذه الفكرة في مجتمعنا؟ أو كنا دراويش نردد ما يردده الروس، ولم نتساءل أو نتجرأ على السؤال: كيف ينظر لنا الروس؟ والسؤال الأهم: لماذا لم نتعلم أو نتفهم على أقل تقدير غياب مفكرين شيوعيين كما أسلفنا سابقًا، مثل الأحزاب الشيوعية الأوروبية التي كانت تعج بالمفكرين سواء كانوا منخرطين أو قريبين من هذه الأحزاب، مثل غرامشي، ألتوسير، جورج لوكاش، تولياتي، غارودي، وهنري لوفيفر. كل هؤلاء أثروا في الفكر الإنساني، ولم يكونوا أصنامًا تعبد “هُبل الماركسي”.

أقول: إنني وجدت في مقالي مفتاحًا للموقف كله، فماذا عسنا أن نأخذ من التنوير؟ الجواب: ما يفيد مجتمعنا، بعيدًا عن التقليد، والسعي وراء الموضة “الفكرية” التي نالت من وعينا مساحات كبيرة.

الشيوعية التي تحولت اصطلاحًا إلى الماركسية جاءت نتيجة جهد فلسفي وفكري في بيئة متطورة، منطلقة نحو عصر لا علاقة له بكل ما سبق من عصور، أي قطيعة مع الماضي. أما نحن فما زلنا نختلف على كل شيء، ومرجعيتنا دائمًا وأبدًا التقليد، سواء ما نستله من ماضينا حسب أهوائنا، أو حاضرنا بما يخدم عجزنا!