بُنَيّ، أَثِقُ بِكَ، فَأَنتَ تَقْدِرُ.,سعيد ذياب سليم

 

دخل المستشفى متجهًا إلى قسم الولادة لزيارة زوجته بعد ليلة طويلة مرهقة، عانت خلالها آلام المخاض ومصاعبه. استقبلته بوجه متعب، لا يزال أثر السهر بادياً في عينيها، وابتسمت وكأنها تقول: لقد فعلتها.
سارا معًا على مهل نحو قسم حديثي الولادة، ووقفا خلف الحاجز الزجاجي يتأملان الأطفال في أَسرّتهم الصغيرة. تحوم حولهم الممرضات كالملائكة، يعتنين ويراقبن بحذر أمومي.
حين رأت الممرضة الأم، أحضرت الطفل إلى الحاجز الزجاجي. نظر إليه الأب وابتسم، لكنه شعر كأنه يقرأ في صفحة لا يعرف لغتها؛ لا يعلم ما كُتب له في قادم الأيام، ولا أي قدر نُسج لهذا الكائن الصغير. لم يرَ إلا الغموض.
في إحدى زوايا الجناح، تتدلّى لوحة كاريكاتيرية ملونة لأمٍ تجلس على كرسيّ مريح، تُرضِع طفلها بهدوء وطمأنينة.
حولها يدور موكب صغير من الرضّع، لا يرتدون سوى حفاظاتهم البيضاء، يحملون لافتات طريفة كُتب على إحداها: “الحليب الطبيعي… الإصدار الأصلي!”، وأخرى تقول: “من المصدر مباشرة… بلا إضافات!”. بعض اللافتات مقلوبة، كأنّ أصحابها ما زالوا يتعلّمون ترتيب الحروف.
تطير فوقهم عصافير صغيرة، وتتناثر الزهور حول المشهد في جوٍّ من البهجة والنقاء.
وفي الخلفية، يظهر أب مرتبك يحمل قارورة الحليب الصناعي مقلوبة رأسًا على عقب، وعلى وجهه فقاعة كلام تقول: “كيف تعمل هذه الآلة؟!”
إلى جانبه تقف ممرضة باسمة، ترفع إبهامها مشيرة إلى الأم، وقد كُتب بجانبها تعليق أنيق:
الرضاعة الطبيعية… حبّ، غذاء، وحماية.
وفي طريق العودة إلى السرير، توقفا أمام لوحة كاريكاتيرية أخرى لأمٍ مرهقة تحمل رضيعها، وحولها أطفال ينادون بارتباك: ماما… بابا… مابا… باما…
تحمل الصورة شعارًا يذكّر بضرورة تباعد الولادات للحفاظ على صحة الأم، لكنها في الوقت نفسه تسأل بصمت:
هل المسؤولية كلها على الأم؟ وأين دور الأب… سوى الفخر؟
في تلك اللحظة، تساءل في سره: هل سيكرّران التجربة؟
لكنها كانت ترد عليه في سرّها: أبدًا… أبدًا!
سؤال لم تعد الإجابة عليه عاطفية فقط، بل بات تحكمه عوامل كثيرة: الثقافة، القدرة، المعتقد، وقبل كل شيء سياسة الخصوبة التي تنتهجها الدولة.
تتنوع سياسات الخصوبة في العالم بتنوّع ظروفه الاجتماعية والاقتصادية؛ فبينما كان الماضي يرى في كثرة الأطفال قوةً للأسرة، أصبحت الأجيال الحديثة تميل إلى الاكتفاء بعدد أقل، تعبيرًا عن تبدّل القيم وارتفاع تكاليف المعيشة وتغيّر دور المرأة.
في المقابل، تختلف الاتجاهات بين الدول؛ فبعضها — كدول الخليج — يشجّع على الإنجاب بدعم مادي وسكني، فيما تواجه أخرى — مثل اليابان وكوريا — تناقصًا سكانيًا يدفعها لتقديم حوافز وتشجيع الأسر الشابة.
وهكذا تبدو سياسات الخصوبة مرآةً لروح كل عصر ومجتمع، تتأرجح بين الخوف من الزيادة والقلق من النقص، بينما يبقى السؤال الأبدي معلّقًا بين أمٍ مرهقة وأبٍ حائر أمام زجاجٍ يفصل الحلم عن الحياة.
أوصلها إلى السرير لتستلقي عليه، وجلس على مقعد بجانبها ضاحكًا. تساءلت: ما الذي يضحكك؟
رد ضاحكًا: رجل الجرة. ثم اعتدل في جلسته وروى الحكاية التراثية التي يذكرها من كتاب القراءة المدرسي:
ذهب رجل يحمل جرّة من العسل إلى السوق ليبيعها. وفي الطريق، صادفته شجرة، علَّقَ الجرة على أحد أغصانها، واستلقى في ظلها ليستريح قليلاً، ثم استغرق في أحلام اليقظة يتخيل ما سيحدث بعد البيع:
“أبيع هذه الجرّة وأشتري بثمنها شاة، ثم تلد الشاة خرافًا، فأبيعها وأشتري بقرة، ثم بيتًا، ثم أتزوج امرأة جميلة، فتنجب لي ولدًا… فإذا عصاني ضربته بالعصا هكذا!”
فهز العصا فأصاب الجرّة، فانكسرت وسال العسل، وذهب الحلم أدراج الرياح.
ضحكت الزوجة ضحكة كتمت فيها أوجاعها، وعلقت: الحمد لله أن ولدنا يعيش في زمن غير زمن العصا!
الزوج: انظري إليهم… كل طفل هنا مختلف. يجعلني أفكر كيف تغيّرت التربية بين جيلنا وأجيال اليوم.
الزوجة: نعم… كنا نسمع دومًا عن أساليب الأجداد التقليدية، لكن الآن كل أسرة تبحث عن طريقتها الخاصة. أحيانًا أشعر أن أهم شيء هو أن نعطي الطفل مساحة ليكون نفسه، لا نغيّر طباعه من فرط حبنا له.
الزوج: بالضبط… الحرية، حتى في الحدود الصغيرة، تجعل الطفل يشعر بالأمان والقبول.
الزوجة: صحيح، ومع ذلك لا يمكننا تجاهل ما حوله… الأسرة الممتدة، المدرسة، وحتى منصات التواصل الاجتماعي، كل هذه المؤثرات تشكله. أحيانًا يجب أن نساعده على التوازن بينها وبين قيمنا كوالدين.
الزوج: وهذا يعني أن علينا أن نكون واعين لدورنا… أن نثقف أنفسنا ونضع حدودًا واضحة، لنوجهه دون أن نخنق شخصيته، ونتأقلم مع التغيرات التي يفرضها المجتمع.
الزوجة: كل تجربة وكل قرار نتخذه يجب أن يكون مدروسًا، وليس مجرد تقليد لما نعرفه أو اتباع رأي الآخرين. بهذه الطريقة، يصبح كل طفل تجربة فريدة… وتجربة تربوية ممتعة لنا أيضًا.

لنبتعد الآن عن أجواء جناح الولادة في المستشفى، وننظر في واقع تربية الأبناء. نرى الأمثال والأقوال المأثورة، تسير على الأرض وتتحدث بنفسها: “طُب الجَرَّة على تِمها، بتِطلَع البِنت لإمها”، ” هذا الشبل من ذاك الأسد”، وفي لحظة رمادية تهمس لنفسك: “النار ما تِخلِّف غير رماد.”.
تختصر تلك الأقوال شبه الأبناء بآبائهم وأمهاتهم، إن كان شبها بيولوجيًا، جينيًا أو سلوكيا، كما لا يخفي عنك بعضها الخيبة.
تعتبر الأسرة الصغيرة بنت الفكرة والمجتمع، يشكلها الفلسفة والعادة والدين. وتصف مشاكلها كتب علم النفس والسلوك عن نظريات أوحت بها الميثولوجيا اليونانية، والكتب المقدسة التي روت عن الخطيئة الأولى وقصة ابني آدم ـ قابيل وهابيل، وربما أفضل من عبر عن ذلك الصراع بين الإخوة، محولاً القصة التوراتية إلى ملحمة عصرية عن الاختيار، هو جون شتاينبك في رواية شرق عدن.
رواية شرق عدن تحكي قصة ثلاثة أجيال من عائلة تراسك، حيث تتكرر مأساة الصراع الأبوي بين تفضيل الابن ورفض الآخر، فتتشكل معاناة الأبناء من آبائهم: سايروس يفضل آدم على أخيه تشارلز، ما يثير في الأخير الغيرة والعنف، وآدم نفسه، بعد خيانة زوجته كاثي/كيت، يفرط في تفضيل آرون على كالب، تاركًا الأخير في فراغ عاطفي شديد. تتجلى مأساة الأبناء في محاولة كالب كسب حب أبيه وثقته، وفي موت آرون بعد كشف كالب لحقيقة أمهما، بينما يظل آدم عاجزًا عن الموازنة بين الأبوة والضمير.
كاثي نفسها، التي وصفها شتاينبك في مقابلاته بـ”الأفعى”، تمثل الخداع والشر النقي، فهي تؤثر على الجميع بلا محبة أو سبب أخلاقي، وتجعل من ميل آدم لآرون محاولة للتمسك بالصورة “المطهرة” لكاثي، فيما يواجه كالب انعكاسًا للجانب المظلم الذي يرفضه والده. تتوج هذه الأحداث بكلمة (Timshel)
“قد تستطيع “ ، التي يهمس بها آدم على فراش موته، معلمًا كالب، ومع نفسه أيضًا، أن الإنسان يملك القدرة على الاختيار بين الخير والشر، وأنه ليس محكومًا بماضيه أو بتفضيل الأب أو إخفاقاته السابقة. ومع ذلك، يجب الإشارة إلى أن الرواية وُلدت في زمن بعيد عن الإعلام الحديث والتواصل الاجتماعي، وأن الأسرة الممتدة تقريبًا غائبة عن السرد، ما يجعل عالم تراسك مختبرًا أخلاقيًا مصغّرًا يركّز على دراسة الصراع الإنساني الأساسي، في حين يعيش القارئ المعاصر في سياق مختلف، حيث تتشابك المؤثرات الخارجية وتصبح العلاقات الأسرية أكثر تعقيدًا.

وفي نهاية المشهد، وبين كل هذه الملاحظات والتأملات، يبقى الأمر واضحًا: كل جيل، وكل أب، وكل طفل، يحمل في يده فرصة للاختيار، وللتعلّم، ولتحرير نفسه من إرث الماضي. فكما في تراسك، كما في كل بيت، وكما في كل تجربة، الحرية في الاختيار هي ما يمنحنا القدرة على التغيير، وتشكيل حياة تستحق أن تُعاش.

لذا دعونا نهمس في آذان أبنائنا:

بُنَيّ، أَثِقُ بِكَ، فَأَنتَ تَقْدِرُ.