تبدأ رواية «ظلال على شرفة المجهول» كما يبدأ الحلم حين ينهض من رماده: ببطءٍ خافتٍ يشبه انفتاح نوافذ الذاكرة على هواءٍ قديمٍ يحمل رائحة البيوت البعيدة. يدخل القارئ عالم إبراهيم ناصر كما يدخل مسافرٌ غريبٌ بيتًا مأهولًا بالصمت، فيسمع صدى أقدامٍ قديمةٍ تهمس في الممرات، ويرى الوجوه تتشكّل من الغبار ثم تعود إلى العدم. هنا، لا شيء ينفصل عن شيء؛ فالمكان ذاكرةٌ، والزمن مرايا متكسّرة، والإنسان ظلٌّ يبحث عن ضوءه المفقود.
منذ الصفحة الأولى يتّضح أنّ الكاتب لا يروي حكايةً بقدر ما يفتّش عن صوتٍ ضائعٍ في خرائب الروح، وأنّ «البيت الكبير» ليس منزلًا بل جرحًا معمورًا بالحكايات. كلّ حجرٍ فيه يروي سيرة الغائبين، وكلّ نافذةٍ تفتح على ماضٍ لا يريد أن يُغلق. في هذا النصّ تتشابك الغربة بالانتماء، والحلم بالفقد، والحنين بالخذلان، حتى تغدو الرواية مرآةً لوجوهٍ تمشي بين الضوء والظلّ، تتأمّل مصائرها على شرفةٍ تطلّ على المجهول حيث يقف الإنسان وحده، محمّلًا بأسئلته القديمة، يحاول أن يرى في الضباب ملامح وطنٍ كان، أو ذاتٍ كانت، أو مستقبلٍ لم يولد بعد.
فرواية «ظلال على شرفة المجهول» للكاتب إبراهيم ناصر ليست سردًا لوقائع، بل عبورٌ بطيءٌ في متاهة الذاكرة، ورحلةٌ تأمليةٌ في أعماق الإنسان حين يجد نفسه على الحافة، يطلّ على مجهوله كما يطلّ المنفي على وطنٍ لا يراه إلا في الحلم. إنّها نصٌّ مكتوبٌ بالحسرة والضوء معًا، بلغةٍ تتصبّب من قلب الذاكرة كما يتصبّب المطر من سقف بيتٍ قديمٍ يحتفظ برائحة أهله، حيث لا تنفصل الحكاية عن المكان، ولا تنفصل اللغة عن الوجع.
منذ الجملة الأولى، تضعنا الرواية في فضاءٍ يفيض بالحنين، كأنّ الكاتب يُمسك بذاكرةٍ تتفتّت في يديه ويعيد لملمتها جملةً بعد جملة. البيت الكبير في القرية هو مركز هذا الكون السردي، ليس بيتًا من طينٍ وحجر، بل كائنٌ حيٌّ يتنفّس بالحكايات، جدرانه تحمل أسماء المارين، وساحته تحتفظ بصدى الخطوات القديمة. ومنه تتفرّع الحكايات كأغصان شجرةٍ عتيقةٍ تضرب بجذورها في الذاكرة وتمتدّ أغصانها نحو الغياب. في هذا البيت تبدأ الحكاية، وفيه تعود لتُغلق دائرتها. هو المهد والرمز، الأب الصامت الذي لا يغادر المشهد، حتى حين يغيب عن العين يظلّ حاضرًا في التفاصيل الصغيرة: في رائحة التراب، في ظلّ الزيتونة، في صمت الجدران التي تنتظر من يعود.
يستحضر الكاتب شخصية صابر ليجعل منها مرآةً للإنسان العربي الذي حمل حقيبته ومضى وراء سراب الحياة. يغترب صابر في الخارج، لكنه حين يعود يدرك أن الغربة ليست في البعد، بل في انقطاع الحبل الذي كان يربطه بجذوره الأولى. إنّه العائد من المنافي إلى المنفى، من الغياب إلى الغياب، يطرق باب البيت الكبير فلا يسمع سوى صدى صوته. في عينيه تتقاطع الأزمنة، وتتكشّف الحقيقة الفاجعة: أن البيت تغيّر، وأن الذين رحلوا تركوا وراءهم ظلالًا فقط، وأنّ العودة لا تمحو الغياب بل تؤكّده. من خلاله تتحوّل الرواية إلى تأملٍ في معنى الوجود والهوية والحنين، إذ يقف البطل على «شرفة المجهول» بين ما كان وما سيكون، بين الذاكرة والحلم، متشبّثًا بما تبقّى من ضوءٍ في آخر النفق.
اللغة في هذا العمل ليست وسيلة سرد، بل كيانٌ شعريٌّ قائمٌ بذاته. تتنقّل بين السرد الواقعي والتداعي الداخلي في انسيابٍ يشبه جريان الماء على وجه الحجر. الكاتب لا يصف المكان، بل يوقظه من سباته، يجعلنا نراه من الداخل، نشعر بأنفاسه ونتلمّس نبضه. الجملة عنده موجةٌ بطيئة، تتقدّم بخفرٍ ثم تنكسر لتولد أخرى، تحمل في طيّاتها موسيقى حزينة كأنّها ترتّل صلاةً قديمةً على روح الوطن. كلّ مشهدٍ في الرواية مغمورٌ بضوءٍ خافتٍ، وكلّ حوارٍ مشدودٌ بين الفكرة والعاطفة، بين ما يُقال وما يُكتم، فيغدو النصّ أقرب إلى قصيدةٍ طويلةٍ عن الحنين بوصفه شكلًا من أشكال الوعي.
تتجلّى المرأة في الرواية بصورٍ متعدّدة، لكنها في جوهرها وجهٌ واحدٌ للأرض؛ فهي الأمّ التي تحتضن أبناءها حتى لو خذلوها، وهي الحبيبة التي تنتظر ولو تحت رماد العمر. في مريم نرى الأرض حين تلبس ثوب الصبر وتخفي دمعتها في جرن القمح، وفي هاجر نرى المرأة التي تتعلّم السير على الجرح دون أن تنزف. كلّ امرأة في الرواية هي فصلٌ من فصول المقاومة الصامتة، لا ترفع صوتها، لكنها تحمل العالم على كتفيها. إنّ الكاتب لا يكتب عن النساء بل عن الأنوثة بوصفها ذاكرة الخلق والبقاء، عن الحضور الذي يواجه الغياب بلا سلاح سوى الإيمان بأن الحبّ هو آخر أشكال النجاة الممكنة.
في مستوى أعمق، تشتغل الرواية على جدلية الحضور والغياب، لتصوغ فلسفتها الخاصة في الزمن. الماضي لا يمضي، بل يظلّ قائمًا في الحاضر كظلٍّ على الحائط. والمستقبل ليس وعدًا، بل فراغٌ معلّقٌ بين ما مضى وما لم يحدث بعد. لذلك تبدو الشخصيات جميعها عالقةً على حافة الزمن، تنظر إلى الخلف بعيونٍ متعبةٍ وإلى الأمام بخوفٍ غامض، لا تستطيع العبور ولا التراجع. وهنا تتجلى رمزية العنوان؛ فالظلال هي ما تبقى من الضوء حين يغيب، والشرفة هي الموضع الذي يفصل الداخل عن الخارج، والمجهول هو النهاية التي لا تُرى. إنها استعارة وجودية عن الإنسان في لحظة وعيه العاري، حين يدرك هشاشته أمام مرور الأيام، وعجزه عن استعادة ما فاته.
في هذا العمل، يتقدّم إبراهيم ناصر بخطى شاعرٍ أكثر منه راوٍ. فهو لا يروي بقدر ما يُصغي إلى أنين الأرض والبيوت والناس. كلّ شخصية فيه تخرج من رحم الحكاية لتدخل في رحم المعنى؛ صابر يعود من الغربة ليكتشف أنه لم يغادرها، وعبد الله يحمل الحكمة القديمة التي تنهار أمام زحف الزمن الجديد، ومريم تقف عند الشرفة ذاتها التي وقف عندها صابر، لكن بنظرةٍ أكثر حنانًا وأقلّ وهجًا، كأنّها تقول إنّ الحياة ليست أن تعود، بل أن تعرف كيف تنسى وأنت تتذكّر.
إنّ «ظلال على شرفة المجهول» عملٌ يختبر حدود الرواية العربية بين الواقع والشعر، بين الحكاية والتأمل. نصٌّ يُبنى على البساطة في ظاهره، لكنه يغور عميقًا في الأسئلة الوجودية الكبرى: من نحن؟ وإلى أين نعود حين يضيع الطريق؟ يكتب إبراهيم ناصر بلغةٍ تمشي على خيطٍ رفيعٍ بين الصمت والكلمة، فتغدو الرواية اعترافًا طويلاً يكتبه المنفى على جدران القلب. وفي النهاية، لا يتركنا النصّ أمام خاتمةٍ مغلقة، بل أمام شرفةٍ مفتوحةٍ على الريح، حيث يقف القارئ مثل صابر، يتأمل البعيد ويتساءل إن كان الضوء القادم فجرًا أم غروبًا.
هكذا تخرج الرواية من إطارها الواقعي لتغدو قصيدةً عن الإنسان حين يتأمل ظله في مرايا الوجود، عن الذاكرة التي تظلّ يقظةً فينا حتى ونحن نحاول النوم، عن تلك المسافة الدقيقة بين الحبّ والموت، بين البيت واللا بيت، بين ما نملكه وما نفقده في اللحظة ذاتها. إنها مرثيةٌ للأمكنة، وأناشيد للذين رحلوا، وتأملٌ طويلٌ في معنى أن تكون إنسانًا يقف على شرفته الأخيرة، يمدّ يده نحو المجهول، ويدرك في لحظة صفاءٍ أنّ المجهول ليس هناك، بل يسكنه هو.
تغلق «ظلال على شرفة المجهول» نافذتها كما يطوي المسافر خريطة الطريق بعد رحلةٍ طويلةٍ في دروب الذاكرة. ليست الرواية حكاية تُروى، بل حالة تُعاش، تتسلّل إلى القارئ كأنها صدى صوتٍ قديمٍ يوقظ ما خمد في القلب. في هذا العمل، يكتب إبراهيم ناصر الإنسان قبل أن يكتب بطله، والوجع قبل أن يكتب الحدث، فتغدو اللغةُ مرآةً للغربة، والمكانُ قلبًا ينبض بما تبقّى من دفء الأمكنة الأولى.
إنها رواية الضوء الأخير قبل أن يبتلعنا الغياب، والشرفة التي يقف عليها الوعي العربيّ متأملًا ظله في مرآة الزمن. من خلالها نلمس أن الحنين ليس عودةً إلى الماضي، بل مقاومة للنسيان، وأن المجهول ليس ما ينتظرنا هناك، بل ما يسكننا منذ البداية. هكذا تنتهي الرواية لتبدأ فينا، كقصيدةٍ لا تُختم، وكظلٍّ يرافقنا كلّما حاولنا النظر إلى الضوء.