كُلُّ الطُّيُورِ تَشِيخُ..سعيد ذياب سليم

أَذْكُرُ صَبَاحَاتِ طُفُولَتِي جَيِّدًا، فَقَدْ كَانَ يَطُلُّ عَلَى بَيْتِنَا، شَفَقٌ ذَهَبِيٌّ مِنْ خَلْفِ التِّلَالِ الْبَعِيدَةِ، تَبْدُو الْهَيَاكِلُ غَارِقَةً فِي جَوٍّ رَمَادِيٍّ، يَنْسَحِبُ عَنْهُ ظَلَامُ اللَّيْلِ دَرَجَةً دَرَجَةً، وَتَظْهَرُ أَلْوَانُ الطَّبِيعَةِ نَابِضَةً بِالْحَيَاةِ.
تَسْمَعُ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ، وَتَغْرِيدَ الطُّيُورِ، مُوَاءَ قِطَّةٍ وَعُوَاءَ كَلْبٍ بَعِيدٍ، وَحَوَافِرَ حِمَارِ بَائِعِ الْحَلِيبِ، تَدُقُّ الشَّارِعَ بِإِيقَاعٍ ثَابِتٍ، وَصَوْتُ صَاحِبِهِ يُنَادِي: حَلِيب….حَلِيب، وَجَارَتُنَا تُنَادِي دَجَاجَاتِهَا.
كَانَتْ جَارَتُنَا الْعَجُوزُ تُرَبِّي بِضْعَ دَجَاجَاتٍ، سَلْوَتَهَا فِي وَحْدَتِهَا، تُقَرْقِرُ لَهُنَّ وَيُقَرْقِرْنَ لَهَا. مِنْ بَيْنِ تِلْكَ الدَّجَاجَاتِ، دَجَاجَةٌ عَجُوزٌ مِسْكِينَةٌ، كَبُرَتْ حَتَّى شَاخَتْ، وَلَمْ يَكْتَفِ لَهَا الدَّهْرُ بِذَلِكَ بَلْ سَرَقَ مِنْهَا سَاقًا مِنْ سَاقَيْهَا، فَقَدْ تَعَرَّضَتْ لِقَضْمَةِ صَقِيعٍ أَسْقَطَتِ النِّصْفَ الْأَسْفَلَ مِنْ سَاقِهَا. تَرَاهَا تَقِفُ عَلَى سَاقٍ وَاحِدَةٍ بِاسْتِسْلَامٍ غَرِيبٍ، عَاجِزَةً لَا تُبْدِي أَيَّةَ حَرَكَةٍ، تَلْتَقِطُ مَا حَوْلَهَا مِنْ حُبُوبٍ.
تَجْلِسُ إِذَا أَرْهَقَهَا الْوُقُوفُ، وَبِسَبَبِ حَالَتِهَا تِلْكَ سَمِنَتْ وَتَضَخَّمَتْ، حَتَّى بَاتَ مِنَ الصَّعْبِ جِدًّا أَنْ تَقْفِزَ عَلَى سَاقِهَا تِلْكَ، وَأَصْبَحَتْ تُعَانِي أَلَمًا وَاضِحًا فِي الْوُقُوفِ وَالْحَرَكَةِ. وَكَانَتْ صَاحِبَتُهَا الْعَجُوزُ تَحْدَبُ عَلَيْهَا وَتَرْعَاهَا، فَكَمْ بَيْضَةٍ وَهَبَتْهَا أَسْكَتَتْ بِهَا ثَرْثَرَةَ مَعِدَتِهَا!
لَكِنَّ صَاحِبَتَهَا الْعَجُوزَ أَشْفَقَتْ عَلَيْهَا أَخِيرًا فَقَرَّرَتْ أَنْ تُخَلِّصَهَا مِنْ بُؤْسِهَا. سَنَّتْ سِكِّينَهَا الْعَتِيقَةَ ـ فَهِيَ تُرِيدُ لَهَا رِحْلَةً بِدُونِ أَلَمٍ. لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَصِفَ لَكُمْ مَشَاعِرَ الدَّجَاجَةِ وَهِيَ تَرَى صَدِيقَتَهَا تَحْمِلُ سِكِّينًا وَتَتَّجِهُ إِلَيْهَا، لَا بُدَّ أَنَّ الدَّجَاجَ يُفَكِّرُ وَيَشْعُرُ وَيَتَأَلَّمُ! ضَمَّتْهَا بِحَنَانِ الْوَدَاعِ الْأَخِيرِ، طَرَحَتْهَا أَرْضًا، أَمْسَكَتْ رَأْسَهَا، وَحَزَّتْ بِالسِّكِّينِ رَقَبَةَ الدَّجَاجَةِ. نَزَلَتْ دَمْعَةٌ مِنْ عَيْنِ الْعَجُوزِ.
دَجَاجَةٌ أُخْرَى تَذَكَّرْتُهَا، هِيَ دَجَاجَةُ “مَارِيَا ذَاتِ الْوِشَاحِ”، الدَّجَاجَةُ الْعَمْيَاءُ.
حَدَّثَنَا جُورْجِي أَمَادُو فِي قِصَّتِهِ الْقَصِيرَةِ، عَنْ مَارِيَا الطِّفْلَةِ ذَاتِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمْرِهَا، الْحُورِيَّةِ الْبَرِيئَةِ، كَانَتْ تَلْعَبُ بِدُمْيَتِهَا، تُفَصِّلُ لَهَا فُسْتَانَ الْعُرْسِ، وَتَصْنَعُ لَهَا إِكْلِيلًا وَ وِشَاحًا، وَتَحْتَفِلُ بِهَا كُلَّ يَوْمٍ، زَوَّجَتْهَا لِكُلِّ حَيَوَانَاتِ الزَّرِيبَةِ، لَكِنَّ أَفْضَلَهَا وَ أَكْثَرَهَا طَوَاعِيَةً دَجَاجَةٌ عَمْيَاءُ، كَانَتْ تَضَعُهَا عَرِيسًا بِجِوَارِ الدُّمْيَةِ، تَجْلِسُ مُسْتَسْلِمَةً دُونَ حَرَاكٍ.
لَمْ يَقُلْ لَنَا الْكَاتِبُ كَيْفَ انْتَهَتْ حَيَاةُ الدَّجَاجَةِ الْعَمْيَاءِ. لَكِنَّهُ مَضَى يُحَدِّثُنَا كَيْفَ خَدَعَ الْحُبُّ مَارِيَا الصَّغِيرَةَ، وَكَيْفَ سَقَطَتِ الْبَرَاءَةُ عَنْهَا، كَمَا تَسْقُطُ الطُّيُورُ مِنْ أَعْشَاشِهَا فَتَمُوتُ.
دَائِمًا مَا تَسْقُطُ الطُّيُورُ! خَاصَّةً عِنْدَمَا تَشِيخُ، حَتَّى أَنَّ الْبَعْضَ تَحَدَّثَ عَنْ أَنَّ الصُّقُورَ إِذَا شَاخَتْ وَهَزُلَتْ وَلَمْ تَعُدْ قَادِرَةً عَلَى الْقَنْصِ، ارْتَفَعَتْ فِي السَّمَاءِ، وَعَلَتْ بَعِيدًا نَحْوَ الْقُبَّةِ، وَكَدَّتْ تَضْرِبُ الْهَوَاءَ بِجَنَاحَيْهَا حَتَّى يُوقِفَهَا التَّعَبُ، ثُمَّ تَضُمُّ جَنَاحَيْهَا مُسْتَسْلِمَةً لِلنِّهَايَةِ، لِتَسْقُطَ عَلَى الْأَرْضِ فِي انْقِضَاضَةٍ أَخِيرَةٍ لِاقْتِنَاصِ الْمَوْتِ.
لَا تَفْعَلُ ذَلِكَ كُلُّ الطُّيُورِ، فَبَعْضُهَا يَتَشَبَّثُ بِالْحَيَاةِ حَتَّى تَمَلَّهُ، كَمَا حَدَثَ مَعَ الْغُرَابِ فِي الْغَابَةِ الْبَعِيدَةِ.
فِي غَابَةٍ بَعِيدَةٍ بَعِيدَةٍ، أَشْجَارٌ عَالِيَةٌ كَثِيفَةٌ، مُمْتَدَّةٌ فِي السَّمَاءِ كَأَيْدٍ ضَارِعَةٍ بِالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ، وَأُخْرَى مُتَسَلِّقَةٌ وَمُتَطَفِّلَةٌ وَشُجَيْرَاتٌ صَغِيرَةٌ، وَحَشَائِشُ وَزُهُورٌ بَرِّيَّةٌ، تَخْتَفِي بَيْنَهَا حَيَوَانَاتٌ عَدِيدَةٌ، تَسْتَدِلُّ عَلَيْهَا مِنْ أَصْوَاتِهَا.
تَبْدَأُ الْجَوْقَةُ الصَّبَاحِيَّةُ مَعَ الطَّيْفِ الْأَوَّلِ لِلْفَجْرِ، تُدَشِّنُ الْغَابَةُ يَوْمَهَا فِي الصَّبَاحِ بِجَوْقَةٍ حَادَّةٍ وَمُبْهِجَةٍ مِنْ زَقْزَقَةِ وَتَغْرِيدِ الطُّيُورِ الَّتِي تَمْلَأُ الْأُفُقَ، يَتَنَاغَمُ مَعَهَا هَمْسُ الرِّيَاحِ الْخَفِيفِ الَّذِي يُوقِظُ الْأَوْرَاقَ، بِالْإِضَافَةِ إِلَى خَرِيرِ الْجَدَاوِلِ الْعَذْبِ الَّذِي يَعْزِفُ إِيقَاعًا رَطْبًا لِنِهَايَةِ السُّكُونِ اللَّيْلِيِّ.
تُوقِظُ الضَّوْضَاءُ الْغُرَابَ الْعَجُوزَ، الَّذِي يَقْعِي عَلَى غُصْنِ شَجَرَةٍ مِنَ الْأَشْجَارِ الْعَالِيَةِ، حِصْنِهِ الْأَخِيرِ، يُصِيخُ السَّمْعَ فَرُبَّ فَرِيسَةٍ صَعِدَتْ إِلَيْهِ، ذُبَابَةٍ أَوْ نَحْلَةٍ، يُوقِظُ طَنِينُهَا نَزْعَةَ الصَّيْدِ عِنْدَهُ، فَيَلْتَقِمُهَا، مُهْتَدِيًا بِأَزِيزِهَا، فَهُوَ يَسْمَعُ وَلَا يَكَادُ يَرَى.
وَمَعَ تَقَدُّمِ شَمْسِ النَّهَارِ فِي مَسَارِهَا، تَهْدَأُ أَصْوَاتُ الطُّيُورِ نِسْبِيًّا لِتَحُلَّ مَحَلَّهَا قَعْقَعَةُ وَحَفِيفُ أَوْرَاقِ الْأَشْجَارِ بِسَبَبِ حَرَكَةِ الرِّيَاحِ، وَتَبْرُزُ جَلَبَةُ الْحَيَوَانَاتِ وَهِيَ تَشُقُّ طَرِيقَهَا بَحْثًا عَنِ الطَّعَامِ، مَصْحُوبَةً بِأَزِيزٍ مُتَوَاصِلٍ لِلْحَشَرَاتِ الطَّائِرَةِ، وَصَاحِبُنَا الْغُرَابُ الْعَجُوزُ فِي عُزْلَتِهِ تِلْكَ، يَتَشَبَّثُ فِي غُصْنِهِ خَوْفًا مِنْ أَنْ تَدْفَعَهُ هَبَّةُ رِيحٍ فَيَقَعَ، أَوْ نَوْبَةُ نُعَاسٍ فَيَسْقُطَ، فَأَجْنِحَتُهُ لَا تَقْوَى عَلَى الْمُنَاوَرَةِ وَمُقَاتَلَةِ الرِّيحِ، فَقَدِ اهْتَرَأَ رِيشُهَا وَضَعُفَتْ عَضَلَاتُهَا، وَخَارَتْ قُوَّتُهُ.
وَعِنْدَمَا يُسْدَلُ اللَّيْلُ سِتَارَهُ، تَتَرَاجَعُ أَصْوَاتُ النَّهَارِ لِيَطْغَى عَلَيْهَا صَرِيرُ الْجَنَادِبِ الْقَوِيِّ وَنَقِيقُ الضَّفَادِعِ كَخَلْفِيَّةٍ صَوْتِيَّةٍ ثَابِتَةٍ، تقطعها أَصْوَاتٌ عَمِيقَةٌ وَغَامِضَةٌ مِثْلُ عُوَاءِ الذِّئَابِ أَوْ صَوْتِ الْبُومِ الْبَعِيدِ، مَعَ تَكَسُّرٍ عَرَضِيٍّ لِغُصْنٍ تَحْتَ قَدَمِ حَيَوَانٍ كَبِيرٍ، تُثِيرُ الرُّعْبَ فِي قَلْبِ صَاحِبِنَا الْمِسْكِينِ، وَتَمْنَعُ عَنْهُ النَّوْمَ.
لَا أَعْلَمُ كَمْ صَمَدَ صَاحِبُنَا الْغُرَابُ عَلَى غُصْنِهِ، لَكِنَّ إِحْدَى الْحَيَوَانَاتِ الرَّمَّامَةِ وَجَدَتْهُ صَرِيعًا عَلَى أَرْضِ الْغَابَةِ، أَتَرَاهُ أَلْقَى بِنَفْسِهِ أَمْ أَنَّهُ انْزَلَقَ عَنْ غُصْنِهِ الَّذِي بَلَّلَهُ الْمَطَرُ؟
اَلْحَدِيثُ ذُو شُجُونٍ، يَقُودُنِي إِلَى تَذَكُّرِ سَانْتِيَاغُو، الَّذِي تَحَدَّثَ عَنْهُ أَرْنِسْتُ هَمِنْغْوَي، فِي “الْعَجُوزِ وَالْبَحْرِ”، حَيْثُ أَهْدَى الْإِنْسَانِيَّةَ أَيْقُونَةً لِلصُّمُودِ وَالْبُطُولَةِ فِي شَخْصِ صَيَّادِهِ سَانْتِيَاغُو. فَالْعَجُوزُ، رَغْمَ شَيْخُوخَتِهِ، خَاضَ مَعْرَكَةً مَلْحَمِيَّةً ضِدَّ سَمَكَةِ الْمَارْلِينِ وَأَسْمَاكِ الْقِرْشِ، لِيُثْبِتَ عَزْمَهُ وَقُوَّتَهُ الرُّوحِيَّةَ رَغْمَ الْهَزِيمَةِ الْجَسَدِيَّةِ، وَعَادَ بِهَيْكَلٍ عَظْمِيٍّ لِلسَّمَكَةِ كَانَ شَاهِدًا عَلَى صُمُودِهِ.
بِالْمُقَابِلِ، فَإِنَّ هَمِنْغْوَي نَفْسَهُ، فِي نِهَايَةِ عُنْفُوَانِهِ، لَمْ يَتَمَثَّلْ بُطُولَةَ شَخْصِيَّتِهِ. بَلِ اسْتَسْلَمَ أَمَامَ رِيَاحِ الْأَلَمِ الَّتِي عَصَفَتْ بِرُوحِهِ، وَأَسْقَطَ نَفْسَهُ وَلَمْ يُقَاوِمْ. حَتَّى مَنْ يُمَجِّدُونَ الْقُوَّةَ لَا يَسْلَمُونَ مِنَ “السُّقُوطِ” فِي النِّهَايَةِ.
أَجْلِسُ عَلَى مَقْعَدِي الْمُرِيحِ، مُرِيحٍ جِدًّا لِدَرَجَةِ أَنَّهُ يُتْعِبُنِي. أُغَيِّرُ مِنْ جَلْسَتِي، أَتَقَوَّسُ تَارَةً وَأَمُدُّ جِذْعِي أُخْرَى، أَسِيرُ فِي فَضَاءِ شِقَّتِي ذَهَابًا وَإِيَابًا كَمَا يَفْعَلُ السَّجِينُ فِي مَحْبَسِهِ، وَأَنْظُرُ مِنْ نَافِذَتِي إِلَى الشَّارِعِ الْبَعِيدِ، أَسْتَرْجِعُ فِي خَيَالِي بَعْضَ مُكَوِّنَاتِهِ: الْبُيُوتَ وَالْأَرْصِفَةَ وَحَرَكَةَ السَّيْرِ. أَعُودُ فَأَجْلِسُ وَأُقَرِّبُ كِتَابِي مِنْ عَيْنِي الَّتِي أَرْهَقَهَا النَّظَرُ، فَهَرَبَتْ مِنْهَا الْكَلِمَاتُ، اهْتَزَّتْ وَتَدَاخَلَتْ وَبَهَتَتْ وَانْطَفَأَ بَرِيقُهَا.
كُلُّ هَذَا الْمَشْهَدِ، مِنْ دَجَاجَةٍ عَجُوزٍ إِلَى صَقْرٍ شَامِخٍ وَكَاتِبٍ عَظِيمٍ، هُوَ حَلْقَةٌ مُتَّصِلَةٌ تَنْتَهِي حَتْمًا بِـ “السُّقُوطِ”. لَكِنَّنِي أُدْرِكُ أَنَّ ثَمَّةَ مُرْتَكَزًا لَا يَطَالُهُ الْعَجْزُ أَوِ الْهَزَلُ؛ أَلَا وَهُوَ الْيَقِينُ. فَالطُّيُورُ وَالرِّجَالُ الَّذِينَ يَسْقُطُونَ، كَانُوا يَعْتَمِدُونَ عَلَى قُوَّةٍ زَائِلَةٍ، إِمَّا فِي جَسَدٍ أَوْ شُهْرَةٍ أَوْ غُصْنٍ هَشٍّ. وَأَنَا، حِينَ أَرَى نِهَايَةَ الطَّرِيقِ وَاضِحَةً، أَلْتَفِتُ لِأَرَى أَنَّ السَّمَاءَ الَّتِي كَانَتْ قُبَّةَ الْمَوْتِ لِلصُّقُورِ، هِيَ ذَاتُهَا قُبَّةُ الرَّحْمَةِ الَّتِي تَحْتَضِنُ الدَّعَوَاتِ.
اَلْإِيمَانُ بِاللَّهِ هُوَ الْغُصْنُ الَّذِي لَا يَشِيخُ. هُوَ الْمَلَاذُ مِنْ عَبَثِيَّةِ الْمَرَايَا الَّتِي تَعْكِسُ ضَعْفَ الْجَسَدِ وَفَنَاءَ الْمَادَّةِ. وَعِنْدَمَا يَعْجِزُ الْجَنَاحُ الْبَشَرِيُّ عَنِ الْمُنَاوَرَةِ وَمُقَاتَلَةِ الرِّيحِ، تَبْقَى الرُّوحُ مُتَشَبِّثًة بِـ “مَا وَرَاءِ الْغُصْنِ”، يَجِدُ فِي الْيَقِينِ قُوَّةً مُسْتَدَامَةً لَا مُتْعَةً عَابِرَةً. بِهَذَا الْيَقِينِ، أَسْتَمِدُّ عَزْمًا جَدِيدًا، لَيْسَ لِلرَّقْصِ فَرَحًا، بَلْ لِمُوَاصَلَةِ الْكِفَاحِ بِوَعْيٍ وَ صَبْرٍ. فَلَا حَيَاةَ خَالِيَةٌ مِنَ الْعَوَاصِفِ، وَالشَّيْخُوخَةُ حَقِيقَةٌ لَا تَزُولُ، لَكِنَّ الصِّرَاعَ يَتَحَوَّلُ مِنْ مَعْرَكَةِ “ضِدَّ” الْفَنَاءِ، إِلَى مَسِيرَةِ “مَعَ” الْقَدَرِ. عِنْدَهَا فَقَطْ، أَتَوَقَّفُ عَنِ النَّظَرِ إِلَى مَصَائِرِ الْكَائِنَاتِ، لِأُدْرِكَ أَنَّ لِي مَصِيرًا مُخْتَلِفًا؛ مَصِيرًا لَا يَرْتَكِنُ إِلَى مُثَابَرَةٍ زَائِلَةٍ، بَلْ إِلَى تَسْلِيمٍ هَادِئٍ وَشُكْرٍ لِلسَّمَاءِ عَلَى نِعْمَةِ كُلِّ صَبَاحٍ، مَعَ الِاسْتِعْدَادِ لِمُوَاجَهَةِ عَتْمَةِ الْمَسَاءِ.
كُلُّ الطُّيُورِ تَشِيخُ.. وَتَسْقُطُ فِي النِّهَايَةِ، لَكِنِّي سَأُقَاوِمُ بِصَمْتٍ وَيَقِينٍ، مَا دُمْتُ مُتَشَبِّثًا بِهِ.