في صباح يليق بالوطن، وقف جلالة الملك عبدالله الثاني تحت قبة البرلمان، كما يقف كل عام، ليجدد أمام الأردنيين عهد القيادة والرؤية والعزم. لم يكن خطاب العرش هذا العام مجرد مناسبة دستورية أو كلمات بروتوكولية، بل كان مرآة صادقة لروح الوطن، ونبض القائد الذي يحمل همّ شعبه في قلبه، ويقود سفينة الأردن بثقةٍ وسط أمواج متلاطمة من الأزمات والتحديات.
منذ اللحظة الأولى للخطاب، كان جلالته واضحًا وصادقًا في رسالته: هذا الوطن، الذي وُلد في قلب الأزمات، لم يعرف يومًا طريق الراحة، لكنه عرف دومًا طريق العزيمة والإصرار. فالأردن لم يُكتب له أن يكون دولة عادية، بل وُلد ليكون مثالًا في الصمود والاتزان، في الحكمة والكرامة. وكل كلمة نطق بها الملك كانت تذكيرًا بتاريخٍ من التحدي والبناء، من الحروب التي أحاطت بنا إلى الصعوبات الاقتصادية التي واجهناها، ومع ذلك… بقي الأردن شامخًا لا ينحني، لأن من يحملونه على أكتافهم أردنيون أوفياء، لا يعرفون المستحيل.
قالها جلالته بصدق القائد المؤمن بشعبه: “نعم، يقلق الملك، لكن لا يخاف إلا الله، ولا يهاب شيئًا وفي ظهره أردني.”
تلك الجملة وحدها تختصر كل فلسفة الحكم الهاشمي؛ علاقة ثقة متبادلة بين القائد وشعبه، علاقة عنوانها الإيمان بالله، والولاء للأرض، والانتماء الصادق للوطن.
في خطابه، لم يكتفِ الملك بتوصيف التحديات أو تكرار الوعود، بل رسم خريطة طريق واضحة لمستقبل الدولة الأردنية. دعا إلى الاستمرار في مسيرة التحديث السياسي، وتعزيز الحياة الحزبية القائمة على البرامج لا على الأشخاص، وإلى تطوير الأداء النيابي ليكون أداة حقيقية في خدمة الوطن. ثم شدد على أهمية المضي في مسار التحديث الاقتصادي، الذي يشكل حجر الأساس في بناء المستقبل، مؤكداً أن الهدف ليس فقط النمو، بل تحسين حياة المواطن، وخلق فرص عمل كريمة، وتطوير القطاعات الحيوية التي تمس الناس يومياً.
ولأن جلالته يؤمن أن بناء الدولة لا يكتمل إلا بالارتقاء بالإنسان، فقد جاءت توجيهاته واضحة حول تطوير النظام التعليمي ليواكب روح العصر، وتحديث قطاع الصحة والنقل والخدمات العامة، حتى يلمس المواطن أثر الإصلاح في حياته اليومية، لا في الأوراق فقط. فالإصلاح عند الملك ليس شعارًا يُرفع، بل عملٌ مستمر ومسؤولية وطنية لا تتوقف.
لقد تحدث جلالته عن الإصلاح لا كمرحلة مؤقتة، بل كمشروع وطني متجدد، يحتاج إلى تكاتف الجميع — حكومةً وشعبًا ومؤسسات — لأن التحديث في فكر الملك ليس قرارًا من الأعلى، بل شراكة قائمة على العمل والالتزام.
أما في حديثه عن الجيش العربي، فقد أعاد جلالته إلى الأذهان صورة الأردن الراسخ، الذي يحميه رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه. وصفهم بأنهم “رجال مصنع الحسين”، أبناء الإرث الهاشمي الذي لا يشيخ، والدرع المنيع الذي يصون الأرض والكرامة. إنها رسالة فخر وتأكيد أن الأردن، مهما اشتدت حوله العواصف، سيبقى آمنًا بقوته العسكرية وبوحدته الوطنية التي لا تتزعزع.
وفي الجانب الإنساني والسياسي الأصيل، حمل الخطاب موقف الأردن الثابت من القضية الفلسطينية، وخصوصًا مأساة غزة التي يعيشها الأشقاء اليوم. أكد جلالته أن الأردن، كما كان دومًا، سيبقى إلى جانب أهل غزة بكل إمكانياته، وأن الموقف الأردني ليس موسميًا ولا عاطفيًا، بل هو التزام أخلاقي وإنساني وتاريخي. وذكّر العالم بأن الأردن سيواصل أداء دوره في حماية المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس الشريف، تحت الوصاية الهاشمية التي تشكل شرفًا ومسؤولية مقدسة في آنٍ واحد.
إن خطاب العرش هذا العام لم يكن مجرد تأكيد على إنجازات، بل تجديد لعهدٍ بين الملك وشعبه. عهد أساسه أن الأردن سيبقى قويًا بمؤسساته، منيعًا بشعبه، ثابتًا على مبادئه. وقد كان لافتًا أن جلالته تحدث عن “عدم امتلاك رفاهية الوقت”، في إشارة إلى أن المرحلة المقبلة هي مرحلة عمل لا تهاون فيها، ومسؤولية لا مجال لتأجيلها.
إننا، ونحن نستمع لخطاب قائدنا، نزداد إيمانًا بأن الأردن بخير، وأن هذه القيادة التي واجهت كل العواصف بحكمة وثبات قادرة على العبور بنا إلى المستقبل. فبين كل كلمة وأخرى، كان الملك يزرع فينا الأمل، ويدعونا أن نكون شركاء في البناء، لا متفرجين على ما يجري.
وسيبقى الأردنيون، كما عهدهم قائدهم، على العهد أوفياء، ماضين خلف جلالته في مسيرة العمل والإصلاح، محافظين على إرث الآباء والأجداد الذين بنوا هذا الوطن بالحكمة والعزيمة.
نقف اليوم، خلف قائدنا وملكنا عبدالله الثاني ابن الحسين، نردد بقلوب صادقة:
على العهد باقون… وماضون خلفك يا سيد البلاد.
لا نخاف إلا الله، ولا نهاب شيئًا، وفي ظهرنا الأردن