إيران من الإمبراطورية إلى الثورة: أثرها الممتد على العراق وبلاد الشام المهندس سعيد بهاء المصري

 

لم تكن إيران عبر التاريخ دولة حدودٍ وجغرافيا، بل مشروعًا مستمرًّا يتقمّص وجوهًا متعدّدة: إمبراطورية، ومملكة، وثورة، وأيديولوجيا. من قورش إلى الخميني، تتبدّل الأدوات لكن الغاية تبقى واحدة: بسط النفوذ على المدى الحضاري الممتد من الهضبة الفارسية إلى وادي الرافدين وبلاد الشام. ولئن تبدّلت الأسماء من زرادشتيةٍ إلى صفويةٍ إلى ثوريةٍ إسلامية، فإن الجوهر ظلّ هو السعي إلى الهيمنة الفكرية والسياسية وإعادة تشكيل وعي المنطقة وهويتها. من هنا، يصبح فهم التاريخ الإيراني ضرورةً لفهم ما يجري اليوم في العراق وسوريا ولبنان؛ لأن الحاضر في طهران ليس إلاّ امتدادًا للإمبراطوريات القديمة بثوبٍ جديد.

المرحلة الأولى: الإمبراطوريات الفارسية القديمة (الأخمينيون والساسانيون)

بدأ التوسع الفارسي مع قورش الكبير عام 550 ق.م، حين أسّس الإمبراطورية الأخمينية التي امتدّت من فارس إلى العراق والشام ومصر. سقطت بابل في يده سنة 539 ق.م، فأُلحِق العراق بالإمبراطورية بنظام الساترابيات، واعتمدت الآرامية لغةً رسمية، واتّسم العهد بتسامحٍ ديني سمح بعودة اليهود إلى القدس. ثم ورث الساسانيون هذا الإرث عام 224 م، وجعلوا من طيسفون (المدائن) عاصمةً لهم، وخاضوا حروب استنزاف مع بيزنطة جعلت العراق قاعدة حربية والشام ساحة صراع دائم.

المرحلة الثانية: الفتح الإسلامي وصعود الدور الفارسي في الإدارة والفقه (633–1258 م)

انهارت الدولة الساسانية أمام الفتح الإسلامي، وأصبح العراق قلب الدولة الجديدة. انتقلت الخلافة من المدينة إلى الكوفة ثم إلى بغداد التي غدت عاصمة العالم الإسلامي. شارك الفرس في بناء الجهاز الإداري والفكري والفقهي، وأسّسوا مدارس علمية تركت أثرًا عميقًا على الفقهين السني والشيعي، فكان ذلك بدايةً لتداخلٍ حضاري طويل الأمد بين العرب والفرس ضمن إطارٍ إسلامي جامع.

المرحلة الثالثة: الصفويون وفرض التشيّع (1501–1736 م)

تحوّلت إيران في عهد الصفويين إلى دولة شيعية رسمية للمرة الأولى، بعدما كانت سنية لقرون. حاول الشاه إسماعيل الصفوي فرض التشيّع كهوية سياسية ودينية، وخاض حروبًا ضارية مع العثمانيين، أبرزها معركة جالديران سنة 1514. احتل الصفويون بغداد فترات متقطعة، ونشروا نفوذهم في الجنوب العراقي، ما أرسى جذور الانقسام المذهبي الذي استمرّ لاحقًا.

المرحلة الرابعة: القاجاريون والتدخل الغربي (1789–1925 م)

في زمن القاجاريين انشغلت إيران بصراعاتها مع روسيا وبريطانيا، لكنها حافظت على اهتمامها الديني بالعراق، ودعمت الحوزات والمرجعيات الشيعية في النجف وكربلاء، فتعزّزت الروابط الثقافية والمذهبية بين البلدين، بينما تراجع الدور السياسي المباشر لطهران بفعل النفوذ الأوروبي.

المرحلة الخامسة: الثورة الدستورية والبهلويون (1906–1979)

أطلقت الثورة الدستورية الإيرانية فجر القرن العشرين أول برلمان وطني، ثم جاء عهد البهلويين فركّز على بناء دولة مركزية حديثة. لكن التحديث القسري ولّد اغترابًا دينيًا واجتماعيًا مهّد لثورة 1979. وفي الوقت نفسه، ظلت إيران تتنازع مع العراق حول شط العرب حتى اتفاقية الجزائر 1975 التي هدّأت النزاع مؤقتًا.

المرحلة السادسة: الثورة الإسلامية وتصدير الأيديولوجيا (1979–2003)

مع قيام الجمهورية الإسلامية بقيادة الخميني، تحوّلت إيران إلى مركز أيديولوجي عابر للحدود. رفعت شعار ‘تصدير الثورة’ ودعمت حركات شيعية في العراق ولبنان وسوريا. اندلعت الحرب مع العراق عام 1980، وأُسّس خلالها حزب الله في لبنان بدعم الحرس الثوري. تكوّن محورٌ إقليمي جمع طهران ودمشق، وبدأت مرحلة التغلغل في المشرق العربي.

المرحلة السابعة: الغزو الأميركي للعراق وملء الفراغ الإيراني (2003–2013)

بعد سقوط بغداد عام 2003، تمدّد النفوذ الإيراني بشكل غير مسبوق عبر أحزاب وميليشيات شيعية، وتحوّل العراق إلى ساحة نفوذ سياسي واقتصادي وأمني لطهران. وفي سوريا، بدأت إيران تكرّس وجودها عبر تحالفها مع النظام السوري، ما مهد لاحقًا لتدخلها المباشر بعد 2011.

المرحلة الثامنة: مرحلة المحور الإقليمي وتمدد النفوذ (2014–اليوم)

وفّرت الحرب على داعش ذريعة لإيران لتوسيع نفوذها العسكري في العراق وسوريا تحت شعار ‘مكافحة الإرهاب’. أنشأت شبكات من الفصائل المسلّحة المرتبطة بالحرس الثوري، ورسّخت حضورها الاقتصادي عبر المعابر والعقود. كما نسجت تحالفات مع روسيا في سوريا، وعززت خطاب ‘محور المقاومة’ كغطاء أيديولوجي لنفوذها الممتد إلى لبنان واليمن.

غزو ناعم بلباس ديني

منذ الأخمينيين حتى الحرس الثوري، لم تتغيّر جوهرية المشروع الإيراني بقدر ما تبدّلت وسائله. فاليوم لا تأتي الجيوش بالخيول، بل بالمذهب والدعاية والميليشيا. تسعى إيران إلى إعادة هندسة الوعي والانتماء أكثر من احتلال الأرض، مستخدمةً أدواتٍ فكرية واقتصادية وأمنية تذيب الهويات الوطنية داخل فضاء نفوذها. ومقاومة هذا الغزو لا تكون بالسلاح فقط، بل ببناء وعي وطني جامع يحصّن الداخل قبل مواجهة الخارج.

التوصيات العملية لمواجهة المشروع الإيراني

نأمل من الحكومات العراقية المنتخبة المتعاقبة أن تحقق التالي لعودة هيبة وقوة الدولة العراقية وبسط سيادتها على كامل التراب العراقي:

1. بناء هوية وطنية جامعة تتجاوز الانقسام المذهبي والطائفي.

2. احتكار السلاح بيد الدولة ودمج الفصائل المنضبطة في المؤسسات الأمنية الرسمية.

3. تطوير اقتصاد رسمي منتج يقلّص نفوذ اقتصاد الظل والارتباط الخارجي.

4. استقلال المؤسسات الدينية والوقفية عن التمويل السياسي الخارجي.

5. تأسيس إعلام وطني محترف يواجه السرديات العابرة للحدود.

6. اتباع دبلوماسية متوازنة تفتح قنوات الحوار دون التنازل عن السيادة الوطنية.