خطاب العرش ليس مناسبة بروتوكولية ولا نصاً سياسياً عابراً، بل هو خارطة طريق وطنية يضع من خلالها جلالة الملك ملامح المرحلة المقبلة، ويرسم الإطار العام للعمل العام. ومن الخطأ اختزال الخطاب في أروقة مجلس الأمة فقط، لأنه في جوهره موجه لكل مواطن ومسؤول، ولكل من يتولى أمانة في مؤسسات الدولة، فهو خطاب إلزام قبل أن يكون خطاب توجيه.
فكل فقرة في خطاب العرش تمثل تكليفاً مباشراً، ومؤشراً وطنياً لتقييم الأداء العام. وعندما يتحدث الملك عن الإصلاح الإداري، أو كفاءة القطاع العام، أو فرص الشباب، فهو لا يعبّر عن تمنيات، بل يضع معياراً للمساءلة على مستوى التنفيذ والنتائج. وهنا يبرز السؤال الحقيقي: هل ما يُنجز على الأرض يتوافق مع ما يرسمه الملك من توجهات؟
لقد اعتاد الأردنيون أن يجدوا في خطابات العرش وضوحاً في الرؤية وصدقاً في التوجه، لكن الفجوة تبقى أحياناً بين ما يُقال في القمة وما يُنفذ في القاعدة. فهناك من يتعامل مع الخطاب وكأنه بيان سياسي لا أكثر، بينما المطلوب أن يتحول إلى برنامج عمل حكومي ومؤسسي قابل للقياس والمتابعة.
ومن الإنصاف القول إن السنوات الأخيرة شهدت زخماً في المبادرات الملكية الهادفة لتحديث المنظومة السياسية والاقتصادية والإدارية، ومع ذلك يبقى التنفيذ هو التحدي الأكبر. فالملك يرسم الاتجاه بدقة، لكن سرعة السير ومسار التطبيق تحددهما المؤسسات التنفيذية التي يجب أن تدرك أن خطاب العرش ليس ترفاً لغوياً بل التزاماً وطنياً يفرض عليها أن تترجم التوجيهات إلى إنجازات ملموسة.
ولأن الخطاب يُفتتح به العام التشريعي، فإنه يمثل لحظة مراجعة أيضاً، لا مجرد انطلاقة جديدة. مراجعة لما تحقق وما لم يتحقق، وتقييم للجهد الرسمي في تحويل الرؤية الملكية إلى واقع يلمسه المواطن.
خطاب العرش، في جوهره، ليس نصاً يُقرأ بل نهج يُترجم. وكل مسؤول لا يقرأه بعين الواجب، وكل مؤسسة لا تضعه في أولويات خطتها، إنما تغيب عن بوصلة الدولة. فالملك يرسم الطريق، لكن السير فيه مسؤولية الجميع، لأن الإنجاز هو المعيار الوحيد لقياس الولاء والانتماء الحقيقي للوطن.
ولهذا، فإن واجب كل مسؤول، أياً كان موقعه، أن يقرأ خطاب العرش كما لو أنه موجه إليه شخصياً، وأن يسأل نفسه بعد كل فقرة: ماذا أنجزت من ذلك؟ وما أثر عملي في ترجمة هذه الرؤية؟ فالأردن لا يحتاج مزيداً من الشعارات، بل منسوباً أعلى من العمل والانتماء.
إن خطاب العرش هو المعيار، وهو مرآة لجدية الدولة في تنفيذ وعودها. ومن يكتفي بالتصفيق عند سماعه، ولا يتحرك لتنفيذ ما جاء فيه، إنما يخذل الوطن قبل أن يخذل الملك. فالرسالة الملكية واضحة: الإنجاز هو الولاء، والمساءلة هي الامتحان الحقيقي لكل من يحمل مسؤولية.