تجاوزت الحرب الدائرة في السودان حدود كونها صراعاً داخلياً على السلطة، لتتحول إلى حرب بالوكالة ساحتها الأقاليم السودانية وشريانها الإمدادات الخارجية، وهو ما أدى إلى تفاقم الكارثة وتكريس حالة عدم الاستقرار. وقد حذر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، مراراً من أن العنف غير المسبوق الذي وصل لذروته في مأساة الفاشر، يتغذى بشكل مباشر من التدخل الخارجي الذي يؤجج النار ويقوض آفاق السلام، ويمد الأطراف المتحاربة بالسلاح والدعم اللوجستي، محولاً السودان إلى ساحة لتصفية حسابات إقليمية ودولية. هذا التدخل لا يقتصر على جهة واحدة، بل يضم قوى غير عربية فاعلة تتوزع بين داعم للجيش وأخرى لقوات الدعم السريع، ساعية لترسيخ مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية على حساب وحدة الدولة السودانية.
تنظر القوى الإقليمية والدولية المتدخلة إلى السودان من منظورين رئيسيين، يشكلان دوافع هذا التدخل: أولهما هو العمق الجيوسياسي والموقع الاستراتيجي، حيث يمثل السودان بوابة هامة بين الشمال الإفريقي ومنطقة الساحل والقرن الإفريقي، ويطل على البحر الأحمر كشريان تجاري عالمي. أي اضطراب في هذا الموقع يهدد أمن الملاحة وحركة التجارة العالمية. وثانيهما هو السيطرة على الموارد الطبيعية، فالبلاد غنية بالذهب والثروة الحيوانية والأراضي الزراعية الخصبة، مما يدفع هذه الدول إلى دعم الأطراف القادرة على تأمين وصولها المستدام والخاص إلى هذه الموارد، أو إنشاء شبكات اقتصادية غير رسمية موالية تضمن مصالحها على المدى الطويل، بغض النظر عن السلطة المركزية في الخرطوم.
وفيما يتعلق بالذهب، يمثل هذا المورد محوراً رئيسياً لاشتعال الصراع وتغذيته. فقد أتاح غياب الرقابة المركزية الفعالة لشبكات اقتصادية غير رسمية (خاصة تلك التي تديرها قوات الدعم السريع سابقاً) ربط هذه التجارة بشكل مباشر بجهات خارجية. تعمل هذه الشبكات على تهريب الذهب من مناطق الإنتاج الرئيسية (مثل دارفور وجنوب كردفان) عبر مسارات حدودية سهلة النفاذ إلى دول مجاورة وأسواق دولية بعينها، مقابل إمدادات عسكرية ومالية ولوجستية فورية. هذه العلاقة التبادلية حولت الذهب السوداني إلى عملة حرب، تضمن للأطراف المتحاربة السيولة اللازمة لشراء السلاح والذخيرة والاستمرار في القتال، بعيداً عن سيطرة أي سلطة مركزية أو رقابة دولية. هذا النوع من الاقتصاد الحربي يكرّس التبعية للجهات الخارجية ويجعل من السيطرة على المناجم والمصافي هدفاً استراتيجياً للحفاظ على شريان الإمداد.
وفي هذا السياق، تظهر على الساحة قوى (من خلال شبكة من المتعاونين) ودول إفريقية مجاورة للسودان، مدفوعة إما بمساعي تأمين موطئ قدم استراتيجي (خاصة في البحر الأحمر أو شمال إفريقيا)، أو بالخوف من تداعيات الصراع على حدودها المليئة بالتوترات العرقية والجماعات المتمردة.
إن التداعيات الأخطر لهذا التدخل الخارجي الممول تكمن في مستقبل الدولة السودانية؛ فهو لا يزيد من فرص استمرار الحرب فحسب، بل يكرس فكرة التقسيم الفعلي للدولة إلى “دويلات نفوذ” تابعة لحسابات دول الجوار وبعض القوى الدولية الكبرى. كلما طال أمد الصراع، تعمقت الخطوط الفاصلة بين مناطق سيطرة كل من الجيش والدعم السريع، وازداد تعلق هذه الأطراف بجهات خارجية تؤمن لها الإمداد والشرعية الجزئية، مما يقوض سلطة أي حكومة مركزية موحدة مقبلة. هذا الواقع يؤدي إلى إضعاف كل مبادرات السلام والحلول الدبلوماسية، إذ لا يرى أي من الأطراف المتحاربة سبباً وجيهاً لوقف القتال طالما أن شريان الدعم الخارجي يضمن استمرارية قوته وموقفه التفاوضي. هكذا، يتحول السودان إلى صراع جيوسياسي بارد ودموي، ومصيره معلق بمدى قدرة المجتمع الدولي على ممارسة ضغوط موحدة وعقوبات حقيقية ليس فقط على الأطراف السودانية، بل على الدول التي تواصل تقديم الدعم العسكري واللوجستي، لوقف هذه “الحرب بالوكالة” التي تهدد أمن واستقرار الإقليم بأكمله.