من منطق السلطة إلى منطق الإرادة، ومن الإصلاح الإداري إلى الإصلاح التقدمي المحامية هبة أبو وردة

يتقدم الأردن اليوم نحو تحديث منظومته السياسية في واحدة من أكثر مراحل تاريخه نضجا وجرأة؛ فالإصلاح اليوم هو محاولة لإعادة تعريف فكرة الدولة ذاتها، وعلاقتها بمواطنيها، وموقع الوعي في صناعة القرار؛ فالقانون الأردني، بتعديلاته الأخيرة، فتح الباب أمام الحياة الحزبية، لكنه لم يفرض على الوعي أن يعبر من خلاله، لتبقى التجربة في منطقة رمادية بين النص القانوني والإدراك الاجتماعي.
بين الباب المفتوح والخطوة المترددة، تقف التجربة الحزبية على عتبتها الأولى، تنظر إلى الداخل دون أن تخطو تحت القبة. هناك حيث تتقاطع النصوص بالدوافع، تبدو الحياة السياسية كأنها تتلمس طريقها من جديد؛ فالمجلس الذي يحمل مهمة التحول ما زال محكوما بنظام داخلي يفكر بعقل ما قبل الحزبية، وكأن الزمن الدستوري يتقدم بينما الزمن البرلماني ما زال يراوح في مكانه.
في المقابل، منحت القوانين الجديدة للأحزاب شرعية كاملة وفضاء قانونيا رحبا للحركة، غير أن هذه الأحزاب ما زالت تتلمس الطريق بحذر، توجه طاقتها نحو إثبات أحقيتها بالوجود أكثر من ممارستها الفعلية للعمل السياسي، وبين النص والممارسة، يقف الوعي الأردني مترددا، يسمع نداء القوانين الثابتة والواضحة في توجهها، لكنه حين يشخص بأنظاره نحو القبة، يراها تدور في دائرة مغلقة لم تكتمل بعد.
النظام الداخلي الذي يفترض أن يكون الجسر بين النص والممارسة، ما زال أسيرا لعقلية الأفراد لا البرامج، وما زال يدار الحوار تحت القبة بمنطق المقاعد لا بمنطق الأفكار، فتبدو الصورة كأن دستورا يتقدم ونظاما يتجمد، لتتسع المسافة بين النص والواقع حتى تغدو أشبه بفاصل بين زمنين؛ زمن يكتب فيه القانون المستقبل، وزمن يخشى الخروج من عباءة الماضي.
لقد منحت القوانين الجديدة ، سواء قانون الأحزاب أو الانتخاب، أدوات التحديث، لكنها لم تنقل بعد روح العمل الجماعي إلى داخل المجلس؛ فما يزال النائب يرى نفسه ممثلا لدائرته لا حاملا لبرنامج حزبي، وما تزال الكتلة النيابية عند كثيرين مجرد وسيلة تفاهم ظرفي أكثر من كونها بناء مؤسسيا مستقرا.
وساهم النظام الداخلي في إدامة هذه الفجوة حين تعامل مع الكتل النيابية بوصفها تجمعات طوعية لا كيانات سياسية ناضجة؛ فاشترط لتشكيلها عددا لا هو بالقليل الذي يضمن المرونة، ولا بالكثير الذي يحقق التماسك، تاركا الباب مفتوحا لائتلافات فضفاضة تشبه الغيوم الصيفية؛ تتشكل سريعا وتختفي قبل أن تمطر فكرة.
هنا، تتضح الإشكالية الجوهرية، لدينا وعيان متوازيان لم يلتقيا بعد؛ وعي جديد يتشكل داخل الأحزاب الشابة يحاول التفكير بالبرامج ويقيس أثره بمعايير الفعل، ووعي قديم يقيم في الكواليس، يرى في الكتلة النيابية وسيلة لتبادل المواقع لا لصياغة الاتجاهات العامة.
ومن هنا ينبع جوهر الإصلاح الحقيقي؛ فالمجلس هو الذي يكتب نظامه الداخلي بيده وفق الدستور، أي أن التغيير أصبح مسؤولية داخلية نابعة من صميم المؤسسة، وحين تبادر الأحزاب إلى تعديل النظام الداخلي للمجلس ليعكس روح المرحلة لا ظل مرحلة مضت، يمكن عندها القول إن الحياة الحزبية بدأت تمارس دورها الحقيقي.
فالنظام الداخلي ليس مجرد لائحة تنظيمية، بل مرآة تعكس وعي الدولة بنفسها، وهو الوثيقة التي تترجم النصوص الدستورية إلى ممارسة. ومن خلاله فقط يمكن للحياة الحزبية أن تتحول من فكرة في القانون إلى واقع في المجلس؛ فالتعددية لا تكفي لإنتاج الديمقراطية ما لم تترافق مع ثقافة مؤسسية تنظم العلاقة بين الأغلبية والمعارضة، وتكافئ الانضباط الحزبي بقدر ما تحاسب الفوضى السياسية.
في علم السياسة المقارنة، لا تنمو الدول بالصدفة ولا تتطور في العزلة، تماما كما لا يكتمل نضج الإنسان إلا بتجاربه وتعلمه من غيره، فبعد الحرب العالمية الثانية أعادت أوروبا بناء نفسها عبر تبادل النماذج المؤسسية؛ استعارت ألمانيا من بريطانيا فكرة البرلمان المقيد بالدستور، وأخذت السويد عن ألمانيا قاعدة التمثيل النسبي الكامل داخل اللجان لتفادي احتكار القرار.
وفي التسعينيات، تسلحت أوروبا الشرقية بالنموذج الإسكندنافي لتختصر طريق الدم نحو الديمقراطية؛ لأن الاقتباس في السياسة ليس تقليدا أعمى، إنما هندسة جديدة للخبرة في بيئة مختلفة، الأردن، وهو يدخل مرحلة التحول الحزبي اليوم، يملك ما لم تملكه كثير من الدول حين بدأت تجربتها؛ أمامه عالم مكتظ بالنماذج التي يمكن قراءتها بعين ناقدة دون نسخها كما هي.
التجربة الأردنية قادرة على أن تصوغ معادلتها الخاصة بين الاستقرار السياسي والتمثيل الحزبي الحقيقي، وبين سيادة القرار الوطني وتنوع الانتماء السياسي، شريطة أن تبدأ من حيث انتهى الآخرون لا من حيث بدأوا، وفي هذا الإطار، بدأنا نشهد تحولا نوعيا من الانشغال بعدد الأحزاب إلى مرحلة أعمق تعيد تعريف جوهر الفعل الحزبي ذاته.
اندماج الأحزاب المتماثلة في الفكر والبرنامج، كما في تجربة حزب “مبادرة” الناتج عن اندماج حزبي إرادة وتقدم، لم يأت بدافع الحاجة التنظيمية، إنما بوحي من النضج السياسي؛ إذ أدركت القوى الوطنية أن تعدد الأسماء لا يعني تعدد الأفكار، وأن الاندماج بين المتشابهين فكريا وتوحيد الرؤى في حزب جامع هو تعبير عن ارتفاع منسوب الوعي الجمعي، وعن فهم السياسة كفعل مؤسسي لا تنافس شخصي، وهو الطريق نحو التمايز الحقيقي لا الذوبان.
منتظرين أن يتبلور هذا الوعي في أن تبدأ “مبادرة” ممارسة حقها الدستوري، وأهمها الحق في تعديل النظام الداخلي للمجلس بما يعكس روح المرحلة، وحينها تتحول السياسة من إدارة للمشهد إلى صناعة للمعنى، ويغدو المجلس عقل الدولة المنظم، والحزب ضميرها المتجدد، والمواطن مصدر شرعيتها الحي، عندها فقط تنتقل الدولة من منطق السلطة إلى منطق الإرادة، ومن الإصلاح الإداري إلى الإصلاح التقدمي؛ فيصبح الوعي هو الطاقة التي تدفع إلى الأمام، فالتاريخ لا ينتظر الخائفين على العتبة.