لم يعد الصراع الإسرائيلي محصورًا في بعدٍ واحدٍ أو في ساحةٍ محددة، بل تحوّل إلى منظومةٍ متعددة الطبقات، تتبدّل فيها الأدوات من القوة العسكرية إلى النفوذ السياسي والتكنولوجي، وتتداخل فيها الاعتبارات الأمنية مع الهويات الدينية والإثنية. إنّ فهم طبيعة هذه الصراعات يقتضي التمييز بين ثلاث دوائر رئيسية:
1. الصراع مع الفلسطينيين،
2. الصراع مع العرب،
3. والصراع أو التنافس مع القوى الإقليمية الكبرى مثل تركيا وإيران.
أولاً: الصراع مع الفلسطينيين — صراع الوجود والهوية
يُعدّ الصراع مع الفلسطينيين أقدم وأعمق وجوه المواجهة الإسرائيلية، وهو في جوهره صراع وجود لا حدود.
نشأ هذا الصراع منذ بدايات المشروع الصهيوني أواخر القرن التاسع عشر، معتمدًا على رؤية استعمارية تستهدف إحلال شعب مكان آخر.
تطوّر لاحقًا ليصبح نزاعًا سياسيًا على السيادة، لكن جذوره بقيت وجودية وديموغرافية تدور حول من يملك الحق في الأرض والتاريخ والرمز.
رغم اتفاقيات أوسلو (1993)، ظل الاحتلال أداة إسرائيلية لإدامة السيطرة عبر التجزئة الجغرافية والاقتصادية، وتحويل الدولة الفلسطينية إلى كيان وظيفي بلا سيادة حقيقية.
إنه صراع يعكس إصرار إسرائيل على نفي الآخر، مقابل تمسك الفلسطينيين بحقهم في الأرض والكرامة والذاكرة.
ثانياً: الصراع مع العرب — من المواجهة إلى إعادة الترتيب
امتد الصراع العربي–الإسرائيلي لعقود كصراع وجودي جامع عبّر عن الرفض العربي للمشروع الصهيوني.
بدأت المواجهة العسكرية منذ حرب 1948 مرورًا بـ 1956 و1967 و1973، حيث شكّلت الجيوش العربية جبهة دفاع عن فلسطين وعن الذات القومية.
إلا أن هزائم الحروب أدّت إلى تحوّل بنيوي في الموقف العربي، من شعار “إزالة إسرائيل” إلى منطق التسويات المنفردة (كامب ديفيد، أوسلو، وادي عربة).
لاحقًا، جاءت اتفاقيات أبراهام لتدشن مرحلة “التطبيع الاستراتيجي” تحت غطاء التعاون الاقتصادي والأمني ضد خصوم مشتركين كإيران.
وهكذا انتقل الصراع من مواجهةٍ مباشرة إلى إعادة ترتيب النظام الإقليمي بما يجعل إسرائيل محورًا في معادلة الأمن العربي الجديدة، لا خصمًا فيها.
ثالثاً: الصراع الإقليمي مع تركيا وإيران — من الحروب إلى التوازنات
تعيش إسرائيل اليوم في بيئة شرق أوسطية تتكوّن من قوى طموحة تسعى لاستعادة دورها التاريخي، أبرزها تركيا وإيران.
مع تركيا: العلاقة تتأرجح بين التعاون الاقتصادي والتنافس الجيوسياسي، خصوصًا في شرق المتوسط والبحر الأسود والقوقاز. أنقرة تسعى لاستعادة نفوذها في المشرق، فيما ترى إسرائيل أن التمدد التركي يهدد توازناتها في المتوسط.
مع إيران: الصراع يأخذ طابعًا أيديولوجيًا–أمنيًا يتجاوز الجغرافيا. فإيران تطرح نفسها كقوة مقاومة للمشروع الصهيوني، بينما ترى إسرائيل في البرنامج النووي الإيراني خطرًا وجوديًا.
كلا القوتين — رغم تناقضهما — تتعاملان مع إسرائيل باعتبارها حجر الأساس في منظومة الردع الغربية، في حين تتعامل إسرائيل معهما كخصمين يجب احتواؤهما عبر تحالفات خليجية وأميركية.
رابعاً: الصراع الحضاري — البعد غير المرئي
وراء هذه الطبقات جميعًا، يظل الصراع حضاريًا بين رؤيتين للمنطقة:
رؤية إسرائيلية–غربية تسعى لتكريس التفوق التكنولوجي والهيمنة الاقتصادية،
ورؤية عربية–شرقية تبحث عن العدالة والسيادة والكرامة.
لكن غياب مشروع عربي جامع جعل الساحة مفتوحة أمام إسرائيل لإعادة هندسة المنطقة سياسيًا واقتصاديًا عبر اتفاقيات الطاقة والتكنولوجيا والتحالفات الأمنية.
يتحوّل الصراع الإسرائيلي اليوم من حروبٍ عسكرية إلى صراعات نفوذٍ ناعمة، تمتد من الفضاء السيبراني إلى الاقتصاد والمياه والطاقة. ومع ذلك، يبقى الملف الفلسطيني هو جوهر كل الصراعات؛ إذ لا يمكن لأي نظام إقليمي أن يستقر طالما ظل الشعب الفلسطيني بلا دولة ولا كرامة. فالعدالة الغائبة في فلسطين ستظل الجرح الذي يُذكّر المنطقة بأن السلام الحقيقي لا يُبنى على القوة وحدها، بل على الاعتراف المتبادل بالحق والإنسانية.