يَرتَحِلُ الأَصدِقَاءُ ويَبقَى اللَّيْلُ، يَزُورُنَا فِي مَوْعِدِهِ.
يَغمُرُنَا بِسَوَادِهِ الكَثِيفِ، ويُلقِي عَلَى الدُّنْيَا دِلَاءً مِنَ العَتَمَةِ يَصْبُغُ بِهَا السَّمَاءَ والأَشْيَاءَ وَالكَائِنَاتِ.
يَكتُمُ الأَصوَاتَ، ويَفرِشُ عَلَى الأَرْضِ عَبَاءَتَهُ الوَثِيرَةَ مِنَ السُّكُونِ؛
ذَلِكَ السُّكُونُ الَّذِي تُغَلِّفُهُ رُطُوبَةُ اللَّيْلِ، فَيَصْنَعُ لِلْهَمْسِ صَدًى، وَلِلْقَلْبِ وَجِيبًا عَمِيقًا، وَيَجْلُبُ لِلْأُذُنِ أَصْوَاتًا بَعِيدَةً يَـقْشَعِرُّ لَهَا البَدَنُ، كَأَنَّ الأَمَاكِنَ نَفْسَهَا تَتَحَدَّثُ مَعَكَ، أَوْ أَنَّهَا آتِيَةٌ مِنْ زَمَنٍ آخَرَ.
فِي طَيَّاتِ ثَوْبِهِ تَخْتَبِئُ الْأَسْرَارُ الصَّغِيرَةُ،
وَتَذُوبُ الْخَطَايَا ــ صَغِيرُهَا وَكَبِيرُهَا ــ فِي أَعْمَاقِ قَلْبِهِ، حَتَّى يُعَرِّيَهَا الضَّوْءُ عِنْدَ الْفَجْرِ.
وَفِي غَمْرَةِ الصَّمْتِ، تَتَفَتَّحُ زُهُورُ الْمَسَاءِ الْخَجُولَةُ؛
تَخْتَبِئُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَيَفْضَحُهَا عَبِيرُهَا الْآسِرُ: الْيَاسَمِينُ وَمِسْكُ اللَّيْلِ وَنَبْتَةُ الْعِطْرِيَّةِ، تَفُوحُ بِهُدُوءٍ شَفِيفٍ، كَأَنَّهَا مَبَاخِرُ مُعَلَّقَةٌ فِي مَعْبَدٍ قَدِيمٍ، يَرْشَحُ مِنْهَا عَبَقٌ مُقَدَّسٌ، تُشَارِكُ السُّهَّارَى طُقُوسَهُمْ، وَتُوَشِّي لَيْلَهُمْ بِلَمْسَةٍ مِنَ الْحَنِينِ.
يَأْسِرُنَا اللَّيْلُ شَيْئًا فَشَيْئًا، حَتَّى نُصْبِحَ سُكَارَى سِحْرِهِ؛
تَخْتَطِفُنَا الْجِنِّيَّاتُ إِلَى وِدْيَانِ الْأَمَانِي، حَيْثُ تَنْطَلِقُ خُيُولُهَا الْمَجْنُونَةُ، تُسَابِقُ رِيَاحَ الْمَنْطِقِ، وَتَقْفِزُ فَوْقَ حَوَاجِزِ الْمُمْكِنِ إِلَى دُنْيَا الْمُسْتَحِيلِ.
هُنَاكَ، يَحْضُنُنَا الْحُلْمُ وَيَضُمُّنَا إِلَى صَدْرِهِ؛ تُحَدِّثُنَا الْمَلَائِكَةُ تَارَةً، وَتَهْمِسُ الشَّيَاطِينُ أُخْرَى، تَنْسَلُّ مِنْ أَكْوَابِنَا الصُّوَرُ، كَأَنَّنَا فِي حَانَةٍ مِنْ ضَبَابٍ وَسُكُونٍ، أَضْنَانَا الْحُزْنُ، وَأَعْمَانَا الْعِشْقُ، وَأَسْكَرَنَا لَحْنٌ قَدِيمٌ.
تَرَاكَ تَقْطَعُ الْفَيَافِيَ، تَسِيرُ فِي طَرِيقٍ طَوِيلَةٍ تَقْصِدُ بَيْتًا لَمْ تَزُرْهُ مُنْذُ عُقُودٍ، تُحَدِّثُ أُنَاسًا غَابُوا عَنْكَ مُنْذُ سِنِينَ، تُرْعِبُكَ قِطَّةٌ، وَتَهْزَأُ بِكَ امْرَأَةٌ مَجْهُولَةٌ، ثُمَّ تَطِيرُ بِلَا جَنَاحَيْنِ، فِي لَوْحَةٍ سِرْيَالِيَّةٍ تُشْبِهُ أَحْلَامَ سَلْفَادُور دَالِي.
مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِنَا؟ أَهْوَ اللَّيْلُ، أَمِ الْحُلْمُ، أَمْ مَا يَخْتَبِئُ بَيْنَهُمَا مِنْ أَسْرَارٍ لَا تُقَالُ؟
لَكِنَّهُ يَمْنَحُنَا صِمَامَ أَمَانٍ، يُخَفِّفُ عَنَّا جُهْدَ الْوَاقِعِ وَيَمْنَعُ عَنَّا الْجُنُونَ.
وَإِنْ كُنَّا نُقَارِبُ الْجُنُونَ أَحْيَانًا، فَكَيْفَ تَشْعُرُ إِذَا حَلُمْتَ أَنَّكَ تَبْحَثُ عَنْ حِذَائِكَ بَيْنَ عَشَرَاتِ الْأَحْذِيَةِ مُخْتَلِفَةِ اللَّوْنِ وَالْقِيَاسِ؟
تَدْخُلُ مِنْ غُرْفَةٍ إِلَى أُخْرَى تَبْحَثُ عَنْهُ، تُحَدِّثُكَ نَفْسُكَ أَنْ تَخْتَارَ أَحَدَهَا، لَكِنَّكَ تَنْظُرُ حَوْلَكَ بِخَوْفٍ، فَلَا يُنْقِذُكَ إِلَّا الْيَقَظَةُ، وَسُؤَالٌ حَائِرٌ عَلَى الشَّفَتَيْنِ: مَا هَذَا الْجُنُونُ؟
بَعْضُ الْأَحْلَامِ تَحْمِلُ الْبِشَارَةَ، كَمَا حَدَثَ لِلْإِسْكَافِيِّ مَارْتِن فِي قِصَّةِ «حَيْثُمَا تَكُونُ الْمَحَبَّةُ يَكُنِ اللَّهُ» لِلْيُو تُولِسْتُوي.
يَحْكِي تُولِسْتُوي عَنْ رَجُلٍ بَسِيطٍ يَعِيشُ فِي عُزْلَةٍ، أَغْرَقَهُ الْيَأْسُ بَعْدَ أَنْ فَقَدَ أَبْنَاءَهُ الصِّغَارَ وَزَوْجَتَهُ، ثُمَّ ابْنَهُ الْأَخِيرَ الَّذِي كَانَ كُلَّ مَا تَبَقَّى لَهُ مِنَ الدُّنْيَا.
سَيْطَرَ عَلَيْهِ النُّكْرَانُ وَهُوَ يَسْأَلُ بِحُرْقَةٍ: كَيْفَ يَسْمَحُ اللَّهُ بِذَلِكَ؟
حَتَّى زَارَهُ أَحَدُ الْحُجَّاجِ، فَأَعَادَهُ إِلَى جَادَّةِ الصَّوَابِ، وَنَصَحَهُ بِأَنَّ السَّلْوَى لَا تُنَالُ إِلَّا إِذَا عَاشَ الْإِنْسَانُ مِنْ أَجْلِ اللَّهِ.
وَمُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، اعْتَادَ مَارْتِنُ الْقِرَاءَةَ فِي الْإِنْجِيلِ كُلَّ مَسَاءٍ حَتَّى يَنْطَفِئَ ضَوْءُ الْقِنْدِيلِ.
وَفِي لَيْلَةٍ نَامَ مُسْتَنِدًا بِرَأْسِهِ عَلَى الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، فَسَمِعَ صَوْتًا يَقُولُ لَهُ: «سَأَزُورُكَ غَدًا».
فَاسْتَيْقَظَ فَزِعًا يَسْأَلُ نَفْسَهُ: صَوْتُ مَنْ هَذَا؟ أَهُوَ اللَّهُ؟
فِي الْيَوْمِ التَّالِي جَلَسَ قُرْبَ نَافِذَتِهِ الْمُنْخَفِضَةِ، لَا يَرَى مِنْهَا إِلَّا أَحْذِيَةَ الْمَارَّةِ، وَقَدْ تَعَرَّفَ مِنْ خِلَالِهَا عَلَى أَصْحَابِهَا، إِذْ مَرَّتْ مُعْظَمُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ فِي دُكَّانِهِ.
لَمْ يَكُنْ عَلَى يَقِينٍ أَنَّ اللَّهَ سَيَزُورُهُ الْيَوْمَ، لَكِنَّهُ ظَلَّ يَتَرَقَّبُ.
خِلَالَ النَّهَارِ رَأَى شَيْخًا عَجُوزًا يُزِيلُ الثَّلْجَ، فَدَعَاهُ لِيُدْفِئَ جَسَدَهُ وَيَشْرَبَ الشَّايَ السَّاخِنَ.
ثُمَّ رَأَى امْرَأَةً شَابَّةً رَثَّةَ الثِّيَابِ، تَحْمِلُ طِفْلَهَا وَتَحْتَمِي بِحَائِطٍ مِنَ الرِّيحِ، فَدَعَاهَا إِلَى الدَّاخِلِ لِتُطْعِمَ صَغِيرَهَا.
وَبَعْدَهَا خَرَجَ لِيَفُضَّ نِزَاعًا بَيْنَ امْرَأَةٍ عَجُوزٍ وَصَبِيٍّ سَرَقَ مِنْ سَلَّتِهَا تُفَّاحَةً.
وَمَعَ كُلِّ ذَلِكَ، لَمْ يَرَ اللَّهَ.
وَفِي اللَّيْلِ، حِينَ أَسْنَدَ رَأْسَهُ إِلَى كِتَابِهِ وَقَدْ غَلَبَهُ الْخِذْلَانُ، لَمَحَ فِي زَاوِيَةٍ مُظْلِمَةٍ وُجُوهَ مَنْ زَارُوهُ فِي النَّهَارِ تَبْتَسِمُ لَهُ.
عِنْدَهَا أَدْرَكَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ زَارَهُ بِالْفِعْلِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا كَمَا ظَنَّ، فَـ حَيْثُمَا تَكُونُ الْمَحَبَّةُ يَكُنِ اللَّهُ، وَشَعَرَ حِينَئِذٍ بِالطُّمَأْنِينَةِ.
قَدْ يَمْتَلِكُ اللَّيْلُ شَخْصِيَّةً فَاعِلَةً، فَلَا يَكُونُ مُجَرَّدَ زَمَنٍ تَقَعُ عَلَيْهِ الْأَحْدَاثُ.
يَبْدُو ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ «المدعوّة» (L’Invitée) لِسِيمُون دِي بُوفْوَار، حَيْثُ يُصْبِحُ اللَّيْلُ لَاعِبًا لَا يُمْكِنُ تَجَاهُلُهُ، كَائِنًا نَابِضًا يُحَرِّكُ الشَّخْصِيَّاتِ مِنَ الدَّاخِلِ، وَيُغْرِيهَا بِالرَّغْبَةِ كَمَا يُوَرِّطُهَا فِي الْقَلَقِ وَالتَّسَاؤُلِ.
فِي ظِلَالِهِ الْمُتَرَامِيَةِ تَتَكَوَّنُ الْعَلَاقَةُ الْمُلْتَبِسَةُ بَيْنَ فْرَانْسْوَاز وَرَفِيقِهَا بْيِير وَالْفَتَاةِ الْغَامِضَةِ زَافِير؛
يَتَحَوَّلُ اللَّيْلُ إِلَى مَسْرَحٍ مَفْتُوحٍ لِلرَّغْبَةِ وَالْغَيْرَةِ، وَلِلتَّجَارِبِ الَّتِي تَتَجَاوَزُ حُدُودَ الْجَسَدِ إِلَى أَسْئِلَةِ الْوُجُودِ وَالْمَعْنَى.
فِي النَّهَارِ تَبْدُو الْحَيَاةُ مُنْتَظِمَةً، خَاضِعَةً لِلْعَقْلِ وَالتَّرْتِيبِ الِاجْتِمَاعِيِّ، لَكِنْ مَا إِنْ يَحُلَّ اللَّيْلُ حَتَّى تَتَسَاقَطَ الْأَقْنِعَةُ، وَتَتَكَشَّفَ هَشَاشَةُ الْحُبِّ الَّذِي حَاوَلَتْ فْرَانْسْوَاز حِمَايَتَهُ.
تَمُرُّ لَيَالٍ طَوِيلَةٌ وَهِيَ وَحِيدَةٌ تَشْعُرُ بِالْوَحْشَةِ، لَا وَحْشَةَ جَسَدٍ بَلْ وَحْشَةَ وَعْيٍ يَتَسَاءَلُ عَنِ الْحُرِّيَّةِ وَالِامْتِلَاكِ، عَنْ مَعْنَى أَنْ تُحِبَّ مِنْ دُونِ أَنْ تَمْتَلِكَ، وَأَنْ تُشَارِكَ مِنْ دُونِ أَنْ تَتَلَاشَى.
لَا تَصِفُ بُوفْوَارُ الْعَلَاقَةَ الْجَسَدِيَّةَ صَرَاحَةً، لَكِنَّهَا تُلَمِّحُ إِلَى عَوَالِمِ الرَّغْبَةِ وَتَوَتُّرَاتِهَا ــ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، وَبَيْنَ امْرَأَتَيْنِ ــ وَفِي مُثَلَّثٍ عَاطِفِيٍّ تَخْتَلِطُ فِيهِ الْمَشَاعِرُ بِالِاخْتِبَارِ الْفَلْسَفِيِّ لِلْحُرِّيَّةِ.
اللَّيْلُ هُنَا لَيْسَ خَلْفِيَّةً مُغْوِيَةً فَحَسْبُ، بَلْ هُوَ الْفَضَاءُ الَّذِي تَتَجَلَّى فِيهِ التَّجْرِبَةُ الْوُجُودِيَّةُ بِكُلِّ تَنَاقُضَاتِهَا:
فِيهِ يَتَقَاطَعُ الْحُبُّ مَعَ الْغَيْرَةِ، وَالْجَسَدُ مَعَ الْفِكْرِ، وَالْحُرِّيَّةُ مَعَ الْعُزْلَةِ.
هَكَذَا يَغْدُو اللَّيْلُ مِرْآةً لِدَاخِلِ الْإِنْسَانِ، وَسَاحَةً لِمُسَاءَلَةِ الذَّاتِ أَمَامَ رَغَبَاتِهَا وَحُدُودِهَا؛
وَهُوَ مَا يَجْعَلُ مِنْ «الْمَدْعُوَّةِ» رِوَايَةً عَنِ اللَّيْلِ الْإِنْسَانِيِّ الْعَمِيقِ الَّذِي يَسْكُنُنَا أَكْثَرَ مِمَّا نَسْكُنُهُ.
وَلَعَلَّ هَذَا الْبُعْدَ النَّفْسِيَّ وَالْفَلْسَفِيَّ يَجِدُ صَدَاهُ فِي حَيَاةِ الْكَاتِبَةِ نَفْسِهَا، إِذْ كَتَبَتْ بُوفْوَارُ الرِّوَايَةَ عَلَى ضَوْءِ تَجْرِبَتِهَا مَعَ جَانْ بُول سَارْتَر، تِلْكَ الْعَلَاقَةِ الْفَرِيدَةِ الَّتِي تَجَاوَزَتِ الْأُطُرَ التَّقْلِيدِيَّةَ لِلزَّوَاجِ، وَقَامَتْ عَلَى مِيثَاقٍ مِنَ الْحُرِّيَّةِ الْمُتَبَادَلَةِ وَالْمُغَامَرَةِ الْفِكْرِيَّةِ وَالْعَاطِفِيَّةِ.
لَقَدْ كَانَتْ «الْمَدْعُوَّةُ» مُحَاوَلَةً أَدَبِيَّةً لِتَحْوِيلِ مَا عَاشَتْهُ بُوفْوَارُ مِنْ حُبٍّ وَغَيْرَةٍ وَتَحَدٍّ لِلْقُيُودِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ إِلَى مَادَّةٍ فَلْسَفِيَّةٍ نَابِضَةٍ، تُظْهِرُ أَنَّ الْحُرِّيَّةَ، مَهْمَا كَانَتْ ثَمِينَةً، تَظَلُّ مَحْفُوفَةً بِالْأَلَمِ حِينَ تُخْتَبَرُ فِي مَيْدَانِ الْعَاطِفَةِ وَاللَّيْلِ وَالرَّغْبَةِ، حِينَمَا يَقْتَحِمُ الْآخَرُ حُدُودَ الذَّاتِ.
هَلْ كَانَتْ بُوفْوَارُ تَكْتُبُ حُلْمًا وُجُودِيًّا عَنِ الْحُرِّيَّةِ وَالْغَيْرَةِ، أَمْ كَانَتْ تُخْفِي فِي ظِلَالِ اللَّيْلِ رَغْبَةً خَافِتَةً فِي الثَّأْرِ مِنَ الدَّخِيلَةِ الَّتِي كَسَرَتْ تَوَازُنَ حُبِّهَا؟ رُبَّمَا لَمْ تَكْتُبْ لِتَقْتُلَ، بَلْ لِتَشْفَى.
وَٱلْلَّيْلُ… كَمَا فِي ٱلْبَدْءِ، يَجْمَعُنَا.