الأردن بين المبدأ والمصلحة: لماذا يُزرع التخوين في الوعي العام بقلم رزان عبدالهادي

 

في كل مرة يحاول فيها الأردن اتخاذ خطوة نحو التقدم، تُعاد نفس الأسطوانة: الاتهام، الشك، والتشكيك في النوايا. وكأن هذا البلد محكوم بأن يبقى في دائرة التفسير السياسي لكل فعل، مهما كان بسيطًا أو وطنيًا أو حتى اقتصاديًا.
مشكلتنا ليست في الخارج بقدر ما هي في الداخل؛ في طريقة تفكيرنا وتعاطينا مع أي حدث، وفي ميل بعضنا إلى تحويل كل خطوة إلى ساحة اتهام، وكأن النجاح نفسه صار موضع ريبة.

ليس سرًّا أن الأردن يعيش ضمن منطقة مضطربة، وأن موقفه من القضايا الإقليمية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، يجعله في قلب التوازنات الدقيقة بين المبدأ والمصلحة. لكن الغريب أن هذا الوعي لا يتحول إلى دعم داخلي، بل إلى محاكمات يومية لأي نشاط، لأي قرار، لأي محاولة لتفعيل السياحة أو الاقتصاد أو المشهد الثقافي.

فما إن يبدأ مشروع أو يُقام فعالية أو تُتخذ خطوة إصلاحية، حتى تُستحضر لغة التخوين: “الوقت غير مناسب”، “القضية أولى”، “الأولويات مختلة”. وهكذا، يُصبح الإنجاز تهمة، والحركة جريمة، والتقدم موضع شك.

إن لهذا الخطاب أثرًا مباشرًا على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. حين تتحول كل مبادرة إلى جدل، تتراجع ثقة المستثمر، ويخاف السائح، ويتردد المواطن نفسه في المشاركة. بل إن الخطاب السلبي المتكرر يُضعف المناعة الوطنية، فيجعلنا نستنزف طاقتنا في الردّ على بعضنا بدل البناء.

في المقابل، ثمة دول تمضي بثبات في مشاريعها، تنمو وتزدهر، لأن شعوبها — بدافع الثقة أو الخوف أو الانضباط — لا تُقابل خطوات حكوماتها بالتشكيك الدائم، بل بالتأييد أو الصمت البنّاء. والنتيجة واضحة: استقرار يفتح الباب للاستثمار، وصورة خارجية قوية، واقتصاد يتقدم بهدوء.

أما عندنا، فحتى حين نحاول أن نتحرك بحذر، نصبح في مرمى الشك، وكأن الحياد خيانة، وكأن الصمت ضعف، وكأن الحركة تواطؤ.

لا أحد يطلب من الناس أن يصمتوا، فالنقد حق، والاختلاف طبيعي، لكن الخطر حين يتحول النقد إلى تخوين، وحين تُفسَّر كل خطوة بمبدأ “لصالح من؟” و”بأي ثمن؟”. لأن هذه الأسئلة، رغم مشروعيتها، تفقد معناها عندما تُطرح بنية الاتهام لا الفهم، وتُصبح أداة تعطيل بدل أن تكون أداة وعي.

الأردن لا يبحث عن تبرير، بل عن مساحة وعي أوسع؛ عن فهم أعمق لتوازناته الصعبة، وعن ثقة بأن السعي للنهوض الاقتصادي والسياحي لا يتعارض مع الموقف القومي أو الإنساني. فالدول القوية ليست تلك التي تصرخ أكثر، بل التي تُحسن إدارة أولوياتها، وتحافظ على تماسكها الداخلي رغم كل الضغوط.

الوعي الجمعي هو خط الدفاع الأول. فإذا استمر الشك وقودًا للخطاب العام، فسنبقى ندور في ذات الحلقة: اتهام، رد، ثم شلل. أما إذا تحوّل الوعي إلى مشاركة، والنقد إلى مسؤولية، فسيتغير المشهد. لأن النهوض لا يبدأ بقرار حكومي فقط، بل بإرادة مجتمعية ترفض أن تُحبط نفسها.