فكر أغيّون وسباق الأمم نحو اقتصاد المعرفة: قراءة نقدية م. سعيد بهاء المصري

من الاقتصاد الصناعي إلى اقتصاد الإبداع
يشكّل فكر الاقتصادي الفرنسي فيليب أغيّون (Philippe Aghion)، الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد عام 2024، تتويجًا لمدرسة فكرية أعادت تعريف مفهوم القوة الاقتصادية للأمم. فمكانة الدولة لم تعد تُقاس بحجم مواردها الطبيعية ولا بعدد مصانعها، بل بقدرتها على توليد معرفة جديدة وتحويلها إلى ابتكارات تُعيد بناء اقتصادها ومجتمعها باستمرار.
هذا هو جوهر ما يُعرف بـ مدرسة النمو الشومبتري الجديد، التي تقف خلف أغلب التحولات التي نشهدها في الاقتصادات المتقدمة اليوم.
النمو الشومبتري: الاقتصاد ككائن حيّ يتطور بالتجديد
يرتكز فكر أغيّون على ما يُعرف في الأدبيات الاقتصادية بـ «النمو الشومبتري» (Schumpeterian Growth)، نسبةً إلى الاقتصادي النمساوي جوزيف شومبيتر الذي رأى في بدايات القرن العشرين أن الرأسمالية ليست نظامًا ساكنًا ينتج الثروة ثم يوزّعها، بل كائن حيّ يتطور عبر موجات متتابعة من الابتكار.
ففي حين ركّزت النظريات الكلاسيكية على تراكم رأس المال المادي كشرط للنمو، اعتبر شومبيتر أن المحرّك الحقيقي هو الابتكار أي إدخال أفكار جديدة تُحدث قطيعة مع النمط القائم وتفتح دورة اقتصادية جديدة.
لكن أغيّون ذهب أبعد من ذلك، إذ حوّل الفكرة من تأمل فلسفي إلى نظرية كمية متكاملة تشرح كيف يمكن للمعرفة والمنافسة والمؤسسات أن تخلق نموًا مستدامًا.
ففي نظره، تقوم معادلة النمو الحديثة على ثلاثة أعمدة:
1. المعرفة هي الوقود: فكل زيادة في المعرفة تولّد موجة جديدة من الإنتاجية.
2. المنافسة هي المحرّك: إذ تحفّز الشركات على الابتكار لتبقى في السوق.
3. الدولة هي الموازن الذكي: لا تتحكم في السوق ولا تنسحب منه، بل تخلق بيئة تسمح بالتجريب، وتحمي المبدعين، وتعوّض المتضررين من التحول دون تعطيله.
التدمير الخلّاق: من الفوضى إلى التجدد
يرتبط النمو الشومبتري بمفهومه الأشهر: «التدمير الخلّاق» (Creative Destruction)، وهو العملية التي تستبدل فيها المجتمعات التقنيات القديمة بجديدة، وتنهار صناعات لتولد أخرى أكثر كفاءة وابتكارًا.
ليست المسألة إذًا تدميرًا من أجل الفوضى، بل تحوّلًا ضروريًا لتجدد الاقتصاد. فالسيارات أزاحت العربات، والهواتف الذكية أنهت عصر الكاميرات الرقمية، والذكاء الاصطناعي يعيد الآن تشكيل سوق العمل العالمي.
ما يميّز أغيّون هو إدراكه أن «التدمير الخلّاق» لا يمكن أن ينجح إلا إذا رافقته عدالة انتقالية اقتصادية أي نظام حماية اجتماعي ذكي يُخفف آثار التحول على العمال دون تجميد التغيير نفسه.
وهنا تبرز فلسفته الأساسية:
«احمِ الإنسان لا الصناعة، وادعم قدرته على التعلم بدلًا من تثبيت موقعه الوظيفي.»
سباق الأمم على المعرفة والابتكار
وفق هذا المنظور، يمكن قراءة خريطة العالم اليوم كسباق بين خمس كتل كبرى تتنافس على قيادة «اقتصاد التدمير الخلّاق»، كلٌّ منها وفق نموذج مختلف.
1. الاتحاد الأوروبي: عقل معرفي بطيء الحركة
يمتلك الاتحاد الأوروبي منظومة علمية رصينة وجامعات رائدة ومؤسسات تنظّم المنافسة والملكية الفكرية بدقة. لكنه يعاني من بطء في تحويل المعرفة إلى ثروة بسبب تشتت الأسواق، وتعدد الأنظمة واللغات، والبيروقراطية التنظيمية.
أوروبا، كما يصفها أغيّون، تفكر أكثر مما تُغامر.
فهي غنية بالعلم، لكنها فقيرة في المخاطرة. ومع ذلك تبقى نموذجًا للتوازن الاجتماعي والبحث الأكاديمي العميق.
2. بريطانيا ودول إسكندنافيا: مختبرات صغيرة بحيوية عالية
بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ركزت على بناء اقتصاد قائم على الذكاء الاصطناعي، والعلوم الحياتية، والتعليم الجامعي المتفوق.
أما دول الشمال الأوروبي (السويد، الدنمارك، فنلندا، النرويج) فتمثل أنجح التجارب في الدمج بين الابتكار والعدالة الاجتماعية.
لكن حجمها السكاني الصغير يجعلها تعتمد على الشراكات الخارجية لتوسيع نطاق تطبيقات ابتكاراتها. إنها نماذج لـ «تدمير خلّاق منضبط» لا يهدد الاستقرار الاجتماعي.
3. الولايات المتحدة وأستراليا: التدمير الخلّاق في ذروته
في الولايات المتحدة يظهر النموذج الشومبتري بأوضح صوره:
جامعات تقود البحث، رؤوس أموال مغامرة تموّل المخاطر، ونظام قانوني يحمي الابتكار.
هنا، تنتقل الفكرة من المختبر إلى السوق بسرعة مذهلة، كما في وادي السيليكون.
إلا أن هذه الديناميكية تواجه خطر الاحتكار التقني وتراكم الثروة في يد القلّة، ما يهدد روح المنافسة التي يقوم عليها الابتكار ذاته.
لذلك يدعو أغيّون إلى دور حكومي فاعل في تنظيم السوق لا السيطرة عليها، بحيث تظل المنافسة حيّة دون أن تتحول إلى فوضى مالية.
4. الصين ونمور آسيا: تدمير موجَّه من الدولة
الصين تمثل النسخة الآسيوية للنمو الشومبتري، ولكن في إطار ابتكار موجّه من الدولة.
فهي لم تكتفِ بأن تكون «مصنع العالم»، بل صارت تسعى لتكون «مختبر العالم»، من خلال خطط استراتيجية في الذكاء الاصطناعي والروبوتات والطاقة النظيفة.
غير أن هذا النموذج يواجه تحديين أساسيين:
القيود المفروضة على حرية البحث العلمي.
مركزية القرار الاقتصادي التي قد تكبح «العفوية الخلّاقة» التي تحتاجها الابتكارات الرائدة.
أما كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان، فتمثل توازنًا أكثر نضجًا بين التخطيط والانفتاح، إذ جعلت من التعليم ركيزة دائمة لتجددها الاقتصادي.
5. اليابان: توازن الحكمة الصناعية مع التحول الرقمي
اليابان تمثّل حالة فريدة بين القوى الاقتصادية الكبرى؛ فهي لا تسابق الزمن نحو «التدمير الخلّاق» كما تفعل الولايات المتحدة، ولا تفرض توجيهًا مركزيًا صارمًا كما في الصين، بل تعتمد على «التجديد الهادئ».
استثمرت في التعليم طويل الأمد، والروبوتات، والتقنيات الدقيقة، لكنها حافظت على منظومة اجتماعية محافظة نسبيًا تقلّل الصدمات.
قوتها في الاستقرار والتقنية المتقنة، وضعفها في تباطؤ التجديد الجيلي وشيخوخة المجتمع.
إنها تُجسّد «النمو الشومبتري المحافظ»: تجدد بطيء لكن مستقر، يجنّبها الفوضى ويحدّ من الاندفاع التكنولوجي غير المحسوب.
وماذا عن الدول العربية؟
في العالم العربي، ما زال السباق نحو اقتصاد المعرفة في مراحله الأولى.
فالبنية الاقتصادية الريعية والمركزية الإدارية جعلت الابتكار رهين المبادرات الفردية أكثر من كونه نتاجًا لنظام مؤسسي.
تتفاوت الدول في قدراتها:
دول الخليج بدأت خطوات واضحة في التحول الرقمي وتمويل البحث العلمي، لكنها ما زالت تعتمد على «الابتكار المستورد».
دول المشرق تمتلك رأسمالًا بشريًا مؤهلًا، لكنه مهاجر أو معطّل داخل هياكل اقتصادية متقادمة.
أما شمال إفريقيا فيواجه معضلة مزدوجة: ضعف التعليم التقني، وغياب الحوافز للمبدعين الشباب.
وبذلك، لا تزال المنطقة تفتقد إلى البيئة المؤسسية التي تجعل من الفشل جزءًا من التعلم، وهي القاعدة التي تقوم عليها فلسفة التدمير الخلّاق.
وماذا عن الأردن؟
يمتلك الأردن كل مقوّمات الاندماج في اقتصاد المعرفة إذا تمكّن من تحويل التعليم إلى رافعة للابتكار، وربط البحث العلمي بالصناعة والخدمات، وتفعيل دور صناديق الاستثمار الوطني والخاص في دعم المشاريع الريادية.
نظامه الاجتماعي المتماسك وقدرته على إدارة الموارد المحدودة يمنحانه ميزة نادرة: المرونة في التكيّف دون صدمات حادة.
لكن التحدي الحقيقي يكمن في تحرير الطاقات الشابة من البيروقراطية التقليدية، وإنشاء منظومة حوافز تُكافئ الأفكار لا الأقدميات.
إن تطبيق رؤية أغيّون في السياق الأردني يعني الانتقال من اقتصاد يعتمد على التوظيف الحكومي إلى اقتصاد يعتمد على المعرفة القابلة للتصدير في الطاقة والمياه والزراعة والتقنيات الرقمية.
وهذا هو جوهر التحول نحو «التدمير الخلّاق الإيجابي» الذي يعيد بناء سوق العمل دون أن يهدد العدالة الاجتماعية.
أختم فأقول
إنّ العالم لم يعد منقسمًا بين رأسمالي واشتراكي، بل بين أنظمة مرنة قادرة على إدارة التحوّل، وأخرى جامدة تخاف منه.
القوة الجديدة للدول ليست في حجم اقتصادها، بل في قدرتها على إعادة ابتكار نفسها كل عقدٍ من الزمن.
وفي عالم يتحرك بهذه السرعة، لن تحافظ الدول على مكانتها إلا إذا جعلت من العقل البشري موردها الأهم.
إنّ التحدي الحقيقي أمام الأمم اليوم لا يكمن في امتلاك التكنولوجيا فحسب، بل في امتلاك القدرة الأخلاقية والسياسية على إدارة «التدمير الخلّاق» دون أن يتحول إلى دمار اجتماعي.
ومن هنا، يصبح فكر أغيّون دعوة إلى إعادة تعريف التنمية، بحيث تقوم على المعرفة والمرونة والعدالة الديناميكية، لا على الأرقام والناتج القومي فحسب.