في الرابع من نوفمبر 2025، بدت الدوحة وكأنها تتقمّص دور العاصمة الأخلاقية للعالم.
ففي أروقة المركز الوطني للمؤتمرات، افتتح أمير دولة قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، القمة العالمية الثانية للتنمية الاجتماعية.
وأمام ممثلي الأمم المتحدة ورؤساء الدول والحكومات، أعلن قائلاً:
«لا يمكن تحقيق التنمية الاجتماعية بشكل كامل داخل المجتمعات من دون السلام والاستقرار.»
«نؤمن بأن السلام الدائم، بخلاف التسويات المؤقتة، هو السلام العادل.»
وبإشارته إلى «الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان والمساواة والسلام»، قدّم الأمير إعلان الدوحة كـ«بوصلة جديدة» للعمل المتعدد الأطراف.
وأكد أن دولة قطر «تبقى شريكاً فاعلاً في المجتمع الدولي» ومدافعاً عن القيم الإنسانية العالمية.
لكن خلف هذا المشهد الدبلوماسي البراق، تظلّ حقيقة أخرى قائمة — تلك التي وثّقتها الأمم المتحدة في وثيقة مؤرخة بتاريخ 7 يوليو 2025: الرأي رقم 28/2025 الصادر عن الفريق العامل المعني بالاحتجاز التعسفي.
حيث كان الفريق العامل المعني بالاحتجاز التعسفي بمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، قد خلص إلى أن اعتقال واحتجاز السيد طيب بن عبد الرحمن، المستشار السابق في اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في قطر، كان تعسفياً وغير قانوني ومخالفاً للقانون الدولي.
الوثيقة، التي تم اعتمادها بالإجماع في يوليو 2025، وصفت حرمان السيد بن عبد الرحمن من حريته بأنه انتهاك صارخ للحقوق الأساسية. وأكد الفريق أن هذا الاحتجاز يخالف المواد 6 و9 و10 و11 و19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وكذلك المواد 9 و14 و16 و19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
وأوضح الرأي أن القضية تندرج ضمن الفئات الأولى والثانية والثالثة، أي تلك التي تشير إلى غياب الأساس القانوني للاعتقال، ومعاقبة شخص على ممارسته حقوقه الأساسية، ووقوع انتهاكات جسيمة لحقه في محاكمة عادلة.
احتجاز وتعذيب
وفقد تمّ اعتقال طيب بن عبد الرحمن في الدوحة في 13 يناير 2020، بناءً على ما وُصف بأنه «أمر من الأمير». ثم وُضع في مكان احتجاز سري، وتعرّض للتعذيب الجسدي والنفسي، وحُرم من محامٍ ومترجم، وتعرّضت أسرته للتهديد.
وتشير الوثائق إلى أنه أُجبر على توقيع اتفاق سري تحت التهديد، قبل أن يُحكم عليه بالإعدام غيابياً في عام 2023، بناءً على اعترافات انتُزعت بالإكراه.
وأمام هذه الانتهاكات، طالب الفريق العامل الحكومة القطرية بتعويض طيب بن عبد الرحمن، وجبر الضرر الذي لحق به، وفتح تحقيق مستقل، ونشر نتائج الرأي بشكل علني. وحتى اليوم، لم يتم تنفيذ أيٍّ من هذه التوصيات.
وبينما تواصل الدوحة تجاهل الاستنتاجات المقلقة الصادرة عن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، أخذت قضية طيب بن عبد الرحمن بعداً سياسياً متزايداً. فمع غياب أي ردّ رسمي من السلطات القطرية، أصبحت المؤسسات الفرنسية والأوروبية هي التي تتولّى نقل مطلب العدالة، محوّلة هذا الملف إلى رمز لمعركة دبلوماسية أوسع من أجل احترام القانون الدولي.
في سبتمبر 2025، قدّم عدد من نواب الجمعية الوطنية الفرنسية أسئلة خطية إلى الحكومة الفرنسية حول الإجراءات التي تعتزم اتخاذها بعد صدور رأي الفريق العامل التابع للأمم المتحدة المعني بالاحتجاز التعسفي (الرأي رقم 28/2025)، وكذلك بعد الحكم بالإعدام الصادر سرّاً بحق طيب بن عبد الرحمن. وطالب النواب السلطة التنفيذية بتوضيح التدابير الدبلوماسية والقانونية التي تنوي اعتمادها لضمان تنفيذ توصيات الأمم المتحدة وحماية هذا المواطن الفرنسي الذي اعترفت المنظمة الأممية بأنه ضحية انتهاكات جسيمة.
وأشارت إحدى هذه الأسئلة، المقدّمة في 9 سبتمبر 2025، إلى «خطورة الانتهاكات التي تم توثيقها»، ودعت إلى «إجراءات ملموسة» تضمن تطبيق نتائج عمل الفريق الأممي «بشكل كامل من قبل قطر».
بعد شهر واحد، امتدّ الحراك إلى مجلس الشيوخ الفرنسي، حيث وُجّه سؤال برلماني بتاريخ 23 أكتوبر 2025 وصف الوضع بأنه «حالة طوارئ دبلوماسية حقيقية». ورأت السيناتورة صاحبة السؤال أن القضية، بما تتضمنه من تجاوزات، تتجاوز بعدها الفردي لتكشف عن اختلال أعمق في توازن العلاقات بين فرنسا وقطر. وكتبت تقول:
«تُظهر هذه القضية بشكل مقلق مدى النفوذ غير المتناسب الذي تمارسه قطر اليوم على الحياة السياسية والاقتصادية والإعلامية في فرنسا»، معبّرة عن أسفها لـ«تردّد العديد من الفاعلين في معارضة هذا البلد علناً خوفاً من تدابير انتقامية اقتصادية أو دبلوماسية».
وحذّرت من أن هذا النوع من التبعية «يضرّ باستقلالنا الوطني» و«يضعف مصداقية فرنسا على الساحة الدولية»، داعية الحكومة إلى التحرّك قبل انتهاء مهلة الأشهر الستة التي حدّدتها الأمم المتحدة للردّ على رأيها، حتى لا تبقى فرنسا «في حالة من الجمود الدبلوماسي تتنافى مع المبادئ الكونية التي تدّعي الدفاع عنها منذ زمن طويل».
مطالبة بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة
على المستوى الأوروبي، ازداد الضغط بدوره. ففي 17 أكتوبر 2025، وجّه نائب في البرلمان الأوروبي سؤالاً خطياً إلى المفوضية الأوروبية (E-004112/2025)، دعا فيه بروكسل إلى اشتراط احترام حقوق الإنسان وتنفيذ قرارات الأمم المتحدة في علاقاتها مع قطر. واستشهد النائب صراحة بقضية بن عبد الرحمن قائلاً:
«السيد طيب بن عبد الرحمن، وهو مواطن فرنسي، حُكم عليه بالإعدام غيابياً في قطر في مايو 2023 بعد محاكمة سرّية وغير عادلة بوضوح. وفي رأيها رقم 28/2025، المعتمد في 8 أبريل 2025، خلص الفريق العامل المعني بالاحتجاز التعسفي إلى أنه اعتُقل تعسفياً وتعرّض للتعذيب وحُرم من حقه في محاكمة عادلة.»
وأوضح النائب الأوروبي أن هذه الوقائع «تتطلّب ردّاً حازماً من الاتحاد الأوروبي»، مذكّراً بأن الأمر «لا يتعلق فقط بحماية مواطن أوروبي تعرّض لانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بل بمصداقية الاتحاد نفسه عندما يقدّم نفسه كفاعل عالمي ملتزم باحترام القانون الدولي». وتهدف مبادرته إلى تحميل المفوضية الأوروبية مسؤولية مزدوجة: الضغط على السلطات القطرية لتطبيق توصيات الأمم المتحدة بسرعة وفعالية، والنظر في ربط التعاون السياسي والاقتصادي بين الاتحاد والدوحة بالالتزام الفعلي بالحقوق الأساسية.
وتُبرز هذه المبادرات، سواء في باريس أو في مجلس الشيوخ أو في بروكسل، قلقاً سياسياً متزايداً. فهي تسلّط الضوء على التناقض بين الدور الذي تدّعيه قطر على الساحة المتعددة الأطراف وبين ازدرائها المستمر للآليات الدولية التي تزعم دعمها. كما تكشف عن تململ داخل الديمقراطيات الأوروبية إزاء شريك اقتصادي وطاقي رئيسي يواصل، رغم خطاباته عن الحوار والتنمية، انتهاك الحقوق الإنسانية الأساسية التي يدّعي الدفاع عنها.
توصيات لم تحترم وقرارات اممية لم تنفذ
في 22 أكتوبر 2025، وجّه المحامي والقاضي الفرنسي السابق باتريك رامايل رسالة إلى رئيس الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا. وفي هذا الخطاب الرسمي، ندد بـ«استمرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في قطر»، ودعا إلى فتح نقاش برلماني أوروبي مخصص لمتابعة تنفيذ آراء الفريق العامل التابع للأمم المتحدة المعني بالاحتجاز التعسفي.
تشكل هذه المبادرة مرحلة جديدة في الحراك المؤسساتي المحيط بقضية طيب بن عبد الرحمن، إذ يؤكد رامايل فيها التناقض الفاضح بين توصيات الأمم المتحدة، التي بقيت حبراً على ورق، واستمرار الانتهاكات نفسها على أرض الواقع. وكتب يقول:
«رغم وضوح هذه التوصيات، لم تتخذ قطر أي إجراء ملموس. بل على العكس، صدر حكم بالإعدام غيابياً ضد موكلنا بعد محاكمة سرية استندت إلى وثائق مزورة وخالية من أي ضمانات للدفاع.»
ويستند رامايل في مراسلته إلى الرأي رقم 28/2025 الصادر عن مجلس حقوق الإنسان، والذي أقرّ بأن احتجاز السيد بن عبد الرحمن كان تعسفياً، وأوصى الدوحة بفتح تحقيق مستقل وتعويض الضحية. إلا أنّ أكثر من ستة أشهر مضت دون أي رد رسمي من السلطات القطرية.
وتلفت الرسالة الانتباه إلى مفارقة صارخة أخرى: فبينما تستعد الدوحة في ديسمبر 2025 لاستضافة المؤتمر الحادي عشر للدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (CoSP 11)، لا تزال متهمة بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. ويرى القاضي السابق أن هذا الوضع يجسّد انحراف النظام الدولي، حيث يمكن لدولة أُدينت بارتكاب انتهاكات موثقة أن تترأس فعاليات يُفترض أن تُعنى بالشفافية والعدالة.
«من المقلق جداً أن يُسمح لدولة ثبتت إدانتها بارتكاب مثل هذه الانتهاكات أن تواصل تقديم نفسها كفاعل مسؤول داخل المجتمع الدولي»، حذر رامايل.
وتحذر الرسالة كذلك من الانعكاسات المؤسسية لصمت المجتمع الدولي، مشيرة إلى أن التناقض بين الخطاب العام لقطر وممارساتها القضائية «يضر بمصداقية النظام متعدد الأطراف بأكمله». ولهذا، تدعو الرسالة مجلس أوروبا إلى دعم آليات الأمم المتحدة من خلال تنظيم نقاش برلماني أو تبنّي قرار إدانة رسمي، لتأكيد أن الانتماء إلى المجتمع الدولي يستوجب احترام الحقوق الأساسية التزاماً لا شعارات.
وتسعى هذه المبادرة، القانونية والسياسية في آنٍ واحد، إلى وضع قضية بن عبد الرحمن ضمن سياق أوسع: التناقض بين الخطاب والواقع، بين المنابر الدبلوماسية التي تقدّم فيها الدوحة نفسها كـ«بطلة الحوار العالمي»، وغرف التحقيق التي تُنتهك فيها أبسط حقوق الإنسان.
المس من مصداقية النظام الدولي
على مدى السنوات الأخيرة، أتقنت الدوحة فن الدبلوماسية القائمة على الوجاهة والهيبة. من تنظيم كأس العالم إلى رعاية وساطات إقليمية كبرى، ومن إقامة منتديات الحوار بين الثقافات إلى استضافة قمم الأمم المتحدة حول التنمية الاجتماعية، عملت قطر بعناية على بناء صورة الدولة الحديثة المتسامحة والمسالمة. فهي تريد أن تكون في آنٍ واحد صوت العالم العربي، وشريك الأمم المتحدة، وراعياً إنسانياً للسلام العالمي.
غير أن وراء هذه الواجهة المضيئة تكمن رواية مختلفة تماماً، كما يوثّق تقرير مجلس حقوق الإنسان. فـ«الجهاز الأمني» في قطر، بحسب الرأي الأممي، لا يزال يعمل خارج إطار القانون، في منطقة رمادية تُعلَّق فيها الضمانات الأساسية متى ما مست مصالح السلطة. تدخل مباشر من جهاز أمن الدولة، غياب استقلال القضاء، تعذيب، تزوير وثائق، ومحاكمات سرية — تفاصيل دقيقة أوردها الخبراء الأمميون بدقة تكشف آلية قمعية ممنهجة خلف الخطاب الرسمي. ويُبرز هذا التناقض استراتيجية الازدواجية التي تجمع بين الإنسانية المعلنة في الخارج والاستبداد الممارس في الداخل.
ويبلغ هذا الانفصام ذروته حين يعتلي الأمير بنفسه منصة مؤتمره الدولي ليعلن أن «التنمية الاجتماعية ضرورة وجودية» وأن «السلام الدائم، بخلاف الحلول المؤقتة، هو السلام العادل». غير أن هذه الكلمات، المغلّفة ببلاغة «التعددية الدولية»، تفقد معناها حين يتجاهل نظامه توصيات الأمم المتحدة في قضية تعذيب اعترفت بها رسمياً هيئة تابعة لها. وهكذا يبقى إعلان الدوحة، الذي يفترض أن يجسد «الكرامة الإنسانية»، مجرّد نصٍ ميتٍ لأولئك الذين سُلبت كرامتهم في أقبية العاصمة ذاتها التي تقدّم نفسها كعاصمة للسلام.
ولعلّ القضية تتجاوز مصير بن عبد الرحمن الفردي، إذ تمسّ مصداقية النظام الدولي برمّته. فكيف يمكن الإيمان بقيم التعددية والعدالة، بينما هناك دول تستطيع في الأسبوع نفسه أن تستضيف مؤتمراً عن الحقوق الاجتماعية وتتجاهل في الوقت نفسه أجهزة الأمم المتحدة؟ إنّ حالة بن عبد الرحمن، التي وصلت أصداؤها إلى البرلمانات الفرنسية والأوروبية، تكشف ثغرة عميقة في النظام العالمي: ثغرة تُتيح للقوة المالية والنفوذ الدبلوماسي أن يطغيا على قوة القانون.
وقد اختتم الفريق العامل المعني بالاحتجاز التعسفي رأيه بعبارة واضحة تكاد تكون بديهية:
«الإجراء المناسب هو منح السيد بن عبد الرحمن حقاً قابلاً للتنفيذ في التعويض وجبر الضرر، وفقاً للقانون الدولي.»
مرّت ستة أشهر منذ صدور هذا القرار، ولم تُصدر قطر أي رد. وبينما يلتزم الصمت الرسمي مكانه، يواصل الأمير في كل منبر دولي حديثه عن «السلام» و«الكرامة» و«الاستقرار»، وكأن البلاغة قادرة على محو الصمت.
لكن التاريخ الحديث يذكّرنا بأن لا قمة، مهما كان حجمها العالمي، قادرة على طمس صمت غرف التحقيق حيث يُدفن السلام. فطالما ظلت الأمم المتحدة تتحدث في الفراغ، وبقيت الضحايا بلا عدالة، فإن إعلان الدوحة لن يكون سوى ظلّ ساخر لإعلان حقوق الإنسان العالمي — مرآة مقلوبة تعكس الخطابات الرسمية دون أن تمسّ جوهر الحقيقة.