رجل الدولة بين القانون والكرسي المستشار الإعلامي/ جميل سامي القاضي

 

في معادلة بناءِ الدولِ وتقدّم الأممِ، هناكَ عنصرانِ لا غِنَى عنهما: قانونٌ عادل وشامل، ورجل دولة قادر وحكيم، فالدولة، في جوهرِها الحضاريِّ، هي تجسيد لفكرةِ القانونِ وسيادته، وهو الإطارُ الذي يَحمِيها من التحوّلِ إلى كيان فوضويٍّ تتنازعهُ المصالحُ الضيقةُ والشخصيةُ.

لكن القانونَ، مهما كان متينًا في نصوصهِ، يبقى حِبرًا على ورَق إن لم يجد من يضعه موضع التطبيقِ ويحوّله إلى واقعٍ ملموسٍ في حياةِ الناسِ، وهنا تتجلى تلك الفجوة الخطيرة بين النصِّ والتطبيق، بين ما يكتب وما يُنفَّذُ.

في هذا الموضعِ بالذاتِ، تبرز شخصيةُ رَجُل الدولةِ الحقيقيِّ؛ ذلك الذي لا يكتفي بإصدارِ القراراتِ أو توقيعِ المراسيمِ، بل يبنيها على أسسٍ قانونيةٍ راسخةٍ، ويتابع تنفيذها بعزيمةٍ لا تلينُ، مهما كانت التحدياتُ.

وهذا هو الفارقُ الجوهريُّ بين القائدِ الحقيقيِّ و”الكُرْسِيِّ” الذي يشغلُ منصبًا بلا روحٍ أو إرادةٍ أو رؤيةٍ، فالأول يخدم القانونَ ليخدمَ الوطنَ، أما الثاني فيخدم المنصبَ ليخدمَ نفسهُ، حتى يذوبَ فيهِ ويصبحَ من الصعبِ التفريقُ بين الإنسانِ والوظيفةِ، بين الشخصِ والموقعِ الإداريِّ.

وللأسفِ، عانى وطننا كثيرًا من ديكتاتوريةِ الكراسي، حين غابت روحُ القيادةِ وحضرت سلطةُ المنصبِ.

لقد مرت على مؤسساتِ الدولةِ نماذجٌ إداريةٌ كثيرة افتقدت إلى جرأةِ القرارِ وشجاعةِ الموقفِ، حكمت باسمِ القانون بينما كانت تمارس ما يناقض جوهرهُ.

تحوّل القانون في أيديها إلى أداةٍ لتبريرِ القراراتِ أو حمايةِ المصالحِ، لا إلى مرجعيةٍ للحقِّ والعدل.

والنتيجة: تراكمٌ للمشكلاتِ، وتعقيدٌ للملفاتِ، وازدياد في معاناةِ الوطنِ، الذي يئنُّ تحت وطأةِ أزماتٍ متلاحقةٍ كان بالإمكان تجاوزُها لو وُجِدَتِ الإرادةُ الحقيقيةُ والرؤيةُ الواضحة.

تحولت مؤسسات عديدة إلى هياكل جامدةٍ تُدارُ بلا روحٍ، تتخذ فيها القراراتُ بلا جرأةٍ، ويعمّها الروتينُ والبيروقراطيةُ بدلًا من الإبداعِ والمبادرةِ، ويبقى السؤالُ الملحُّ: لماذا غابَ رَجُل الدولةِ الحقيقيُّ؟

الحقيقة أن القانونَ لم يكن غائبًا عن مشهدِ الأزمةِ، فقد كان حاضرًا في النصوصِ والدساتيرِ واللوائحِ، لكن الغيابَ كان في الرجالِ القادرين على ترجمةِ القانونِ إلى فعلٍ، أولئك الذين يجمعون بين العلمِ والحكمة والشجاعة.

إنَّنا اليوم أحوجُ ما نكونُ إلى رَجُل دولةٍ من طرازٍ مختلفٍ، لا إلى مسؤولٍ أو مديرٍ أو موظفٍ كبير.

نحتاجُ إلى رَجُل يملكُ القرار الشجاع، يتخذُ الموقف في لحظتِه التاريخية دونَ خوفٍ أو ترددٍ، لا يخشى في الحقِّ لومةَ لائمٍ، ويملك الإصرار على متابعة التنفيذ طالما أنَّ قرارهُ في صالحِ الوطنِ والمواطن.

رَجُلُ الدولةِ الحقيقيُّ هو من يمتلك رؤيةً استراتيجيةً واضحةً، يتعاملُ مع الواقعِ بمنطقِ المسؤوليةِ لا بمنطقِ المصلحة، ويؤمنُ أنَّ القيادة ليست امتيازًا بل أمانةً، وأنَّ المنصبَ ليس كرسيًّا للتشبثِ به، بل منصةً لخدمةِ الوطنِ ورفعته.

هو من يضعُ المصلحةَ العامةَ فوق كلِّ اعتبارٍ، يقول “لا” عندما يكونُ الصمتُ أسهل، ويقول “نعم” عندما تفرضُ المصلحةُ الوطنيةُ ذلك.

كلنا نأملُ أن تتهيأَ الظروفُ لظهورِ مثلِ هذه النماذجِ، ليعرفَ الجيلُ القادمُ أن القيادة ليست امتيازًا، بل مسؤوليةً، وأنَّ الكرسيَّ لا يصنعُ القائد، بل القائدُ هو من يمنحُ الكرسيَّ قيمتَه.

إنَّ الإجابةَ عن سؤالٍ: إلى أينَ نسيرُ؟ ومتى نجدُ الرجالَ الذين يحملونَ على عاتقهم مسؤولية التاريخ؟ هي التي ستحددُ مصيرَ الأمةِ ومستقبلَ الأجيالِ القادمةِ.

والأوطانُ لا تنهض بالنصوصِ وحدها، بل بالرجالِ الذين يجعلونَ من النصِّ روحًا، ومن القانونِ حياةً.