شكّل فوز زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك مناسبة جديدة لإظهار حجم الضحالة والاستقطاب في منطقتنا. إذ تحوّل حدث ديمقراطي طبيعي إلى مادة سجال طائفي لا علاقة له بجوهر الحدث ، وبدل الانشغال ببرنامجه الانتخابي، تحوّل النقاش إلى دينه، ومذهبه، وهوية زوجته، وحتى ديانة والدته. بينما الحقيقة البسيطة التي لا يريد كثيرون الاعتراف بها هي أن الرجل مواطن أمريكي انتُخب بفضل برنامجه ، وكفاءته لا بسبب طائفته أو خلفيته العائلية. هذه الظاهرة تكشف مرة أخرى أننا ما نزال عاجزين عن إدراك طبيعة الدولة الحديثة، وضرورة فصل الدين والمذهب عن الشأن العام.
أولاً- التركيز على الهوية الطائفية لممداني يعكس هروباً من جوهر السياسة إلى هامش مَرَضي يختزل البشر في انتماءات ما قبل الدولة . إنه نفس الجمهور الذي سبق أن احتفل بوصول باراك حسين أوباما إلى البيت الأبيض ظانّين أنه سيخدم “قضايا المسلمين” فقط لأن اسم أبيه حسين . ثم تبين لاحقاً أنّ أوباما كان الأكثر تأثيراً في إعادة صياغة خرائط المنطقة عبر ما سمي ربيعا” عربيا” . أوباما – مثل ممداني – أميركي يخدم مصالح بلاده، وما يحدد وصوله للمنصب عوامل كثيرة في النظام الأمريكي، منها الكفاءة والقدرة على تحقيق مصالح أطراف عديدة، و أهمهم المواطنين أي دافعي الضرائب.
ثانياً- فوز زهران ممداني ليس “نصراً طائفياً” باعتباره شيعي اثنا عشري كما يقول البعض ، بل نتيجة طرحه ل برامج واضحة : خطط للإسكان الميسّر ، وحماية المستأجرين من جشع السوق، توسيع خدمات الرعاية الصحية المجانية ومنخفضة الكلفة، دعم المدارس الحكومية خاصة في الأحياء الفقيرة، تطوير النقل العام، وتحسين توزيع الموارد بين المناطق الغنية والفقيرة. هذه البرامج هي التي أقنعت سكان نيويورك، المدينة التي تُعد مختبراً سياسياً واجتماعياً معقداً، وليس خلفيته الدينية.
ثالثاً- التجربة الأميركية قائمة على مواطنة دستورية لا على طائفية اجتماعية. التاريخ السياسي في الولايات المتحدة مليء بأمثلة تؤكد ذلك. جون كينيدي، الذي أثار انتخابه جدلاً لأنه كاثوليكي، أعلن بوضوح أنّ الفاتيكان لا يملي سياسته عليه. مادلين أولبرايت وهنري كيسنجر، المولودان خارج أميركا، وصلا إلى قمة هرم السياسة الخارجية لأنهما أثبتا كفاءة لا علاقة لها بدينهِما ولا أصلِهما. القاضية روث غينسبيرغ والعديد من الشخصيات العامة مثّلوا تنوعاً دينياً وإثنياً لم يؤثر في موقع الدولة ولا في ولائهم لها. القاعدة في أميركا بسيطة: ولاؤك للدستور، وبرنامجك للمواطنين.
رابعاً- لفهم فوز ممداني وفهم طبيعة السياسة الأمريكية، لا بد من قراءة تاريخ نيويورك نفسه. هذه المدينة كانت عبر قرن ونصف مختبراً للتنوع البشري والاندماج السياسي. منذ بدايات القرن العشرين، تعاقب على منصب العمدة مهاجرون أو أبناء مهاجرين:
– العمدة فيوريلو لاغوارديا، ابن مهاجر إيطالي، قاد المدينة خلال الكساد الكبير.
– إد كوتش، ابن عائلة يهودية مهاجرة،أعاد هيكلة الإدارة المحلية.
– مايكل بلومبرغ، رجل الأعمال اليهودي، الذي ركّز على استقرار الاقتصاد المحلي.
– بيل دي بلاسيو، من خلفية إيطالية، وصل بدعم الفئات الفقيرة والعمال.
نيويورك مدينة لا انتخاب فيها يقوم على طائفة أو دين أو قرابة، بل على برامج تمس حياة ملايين السكان. إنها نموذج لمدينة تتعايش فيها عشرات القوميات والمذاهب، لكن صندوق الاقتراع لا يقيس أيّاً منها، بل يقيس قدرة المرشح على تحسين حياة الناس. مقارنة هذا النموذج السياسي الراسخ بالخطاب الطائفي في منطقتنا تكشف حجم الفجوة بين عالمَين: عالم الدولة وعالم العصبيات.
خامساً- الهوس الذي ظهر في منطقتنا بعد فوز ممداني يعكس مرضاً طائفياً يشبه “جنون البقر”: ردود فعل غير عقلانية، وتحويل حدث سياسي أمريكي إلى معركة مذهبية حول أي طائفة أفضل ، وأي مذهب أنضج ، دون أن يدقق هؤلاء مثلا” أن المثليين صوتوا له ، وأن اليهود صوتوا له بنسبة ٣٠%، وأن عدد المتطوعين في حملته الانتخابية وصل الى ٩٠ الف متطوع، وهؤلاء ليسوا شيعة، أو سنة بل مواطنين أمريكان يدعمون مرشحهم وبرنامجه الذي يخدمهم ، وهذا التفكير هو الذي يحوّل المجتمعات من مجموعات ساكنة، عاجزة عن الخروج من الماضي، إلى مواطنين يدعمون من يحقق مصالحهم ، وليس من ينتمي لمذهبهم أو طائفتهم، وهنا يجب أن نعترف بوضوح أن مجتمعاتنا مريضة فعلا” بأمراض ما قبل الدولة الحديثة، والمرض الطائفي هو مرض قريب من جنون البقر حيث يصاب الإنسان بحالة هستيرية تشبه الجنون عندما تناقشه، أو تقول له أبعدوا الدين عن السياسة، حرصا على الدين الذي هو خيار فردي في النهاية لدى الأمريكان وأما لدينا فهو وراثي تجبر به دون أن تختار، وهو ما يجعل أعراض الجنون تنتقل من جيل إلى آخر ويجعلنا مختبرا” جاهزا” لتجارب الاخرين علينا .
خامسا”- إن الدرس الأهم من تجربة فوز زهران ممداني – ومن تاريخ نيويورك السياسي – هو أنّ السياسة تقوم على البرامج، وعلى إدارة مصالح المواطنين، وليس على الدين أو المذهب. ما يجب أن نتعلمه هو كيفية بناء دولة تُحاسَب فيها الحكومات على أدائها، لا على طوائفها، وأديانها، وجذور عائلاتها. أما الاستمرار في تحويل كل حدث إلى مادة طائفية فهو استمرار أعراض جنون البقر الطائفي و الذي سيعيق أي نهضة حقيقية ، لأن الدولة الحديثة تُدار بالعقل والكفاءة، لا بالشعارات الطائفية التي لا تثمر إلا التراجع والعجز.