من موازنة 2026 إلى اقتصاد المستقبل: التحدي بين العجز والأتمتة المهندس سعيد بهاء المصري

 

 

لم تعد الموازنات العامة مجرّد جداول أرقام، بل تحولت إلى مرآةٍ تكشف عن طبيعة الاقتصاد واتجاهه الاستراتيجي، وعن مدى اتساق الخطط الحكومية مع رؤية التحديث الاقتصادي. وموازنة الأردن للعام 2026 تمثّل نموذجًا حيًّا لهذا التحدي، إذ تكشف في تفاصيلها عمق الخلل الهيكلي بين ما تتحمّله الدولة وما يُفترض أن ينهض به القطاع الخاص والمستثمرون، كما تُبرز في الوقت نفسه حجم العاصفة التكنولوجية القادمة التي ستهزّ سوق العمل وتفرض واقعًا جديدًا على صُنّاع القرار.

رؤية التحديث الاقتصادي الأردنية وُضعت على أساس الشراكة بين ثلاثة أطراف: القطاع العام، القطاع الخاص، والمستثمرون الجدد المحليون والأجانب. إلا أن الممارسة الواقعية تُظهر أن القطاع العام ما يزال يتحمّل عبء الثلث بأكمله وحده — بل وأكثر أحيانًا — في حين غاب “الثلثان” الآخران عن المشهد، أي المستثمرون الذين يُفترض أن يوسّعوا قاعدة المكلفين عبر مشاريع إنتاجية جديدة ترفع الإيرادات وتخفض الضغط على الموازنة.

فعجز الحكومة عن جذب الاستثمارات الجديدة يعني ببساطة أن كل زيادة في النفقات الجارية تُموّل من نفس القاعدة الضريبية القديمة، بينما تظل النفقات الرأسمالية رهينة القدرة التمويلية المحدودة. ومع أن الموازنة رفعت الإنفاق الاستثماري إلى نحو 1.6 مليار دينار في 2026،إلاأنهذهالزيادةتبقىرمزيةمالمتترافقمعإصلاحبيئةالأعمالوتوسيعقاعدةالمكلّفينالإنتاجيينلاالضريبيين.

لا يمكن فهم ضعف الاستثمارات دون الإشارة إلى بيئة الأعمال الأردنية التي ما تزال تعاني من عبء ضريبي متراكم، وإجراءات بيروقراطية تُثقل كاهل المستثمر، رغم الجهود المعلنة لتبسيطها. فالخلل الجوهري يكمن في ما يمكن تسميته أزمة حوكمة القطاع العام؛ أي غياب الإدارة القائمة على الكفاءة والنتائج، لا على المزاج البشري أو تكرار التعليمات.

لقد أُشير مرارًا إلى أن التحول نحو الأتمتة والرقمنة في الخدمات الحكومية ليس ترفًا إداريًا، بل ضرورة لإنقاذ الاقتصاد من بطء الأداء وتضارب القرارات. ومع ذلك، ما تزال الرقمنة في بعض المؤسسات تُعامل كمشروع جانبي لا كإصلاح بنيوي متكامل، وهو ما يعيق خلق بيئة أعمال منافسة قادرة على جذب المستثمرين بدل إخافتهم.

حتى لو حققت الموازنة هدفها برفع النمو الحقيقي إلى 2.9 %،فإنهذاالرقملايحملمعنىإنلميُترجمإلىنموفيفرصالعمل. وهنا تكمن المفارقة: الاقتصاد الأردني يواجه اليوم خطر “النمو بلا وظائف”،وهيالظاهرةالتيبدأتتضربالاقتصاداتالمتقدمةبعددخولالذكاءالاصطناعيوالأتمتةخطوطالإنتاجوالخدمات،فارتفعالناتجولمترتفعفرصالعمل.

وفي الأردن، ستبدو هذه الموجة أكثر قسوة لأسباب اجتماعية واقتصادية؛ فالقطاع العام يوظّف أكثر من ثلث القوة العاملة مباشرة أو غير مباشرة، وأيّ عملية “ترشيق رقمي” قادمة — عبر استخدام الذكاء الاصطناعي لأداء المهام الإدارية والفنية — ستعني عمليًا إلغاء آلاف الوظائف أو تحويلها إلى أنماط رقمية هجينة، في حين لا تزال شبكة الأمان الاجتماعي الحالية هشة وغير قادرة على امتصاص هذا الأثر.

قد ينجو الأردن من تداعيات الاضطرابات الجيوسياسية في الإقليم، لكنه لن ينجو من طوفان الأتمتة والذكاء الاصطناعي خلال العقد القادم. فمع اشتداد المنافسة الإقليمية والدولية، ستُضطر الحكومة والمؤسسات الخاصة إلى خفض الكلف ورفع الكفاءة، ولن يكون أمامها سوى اعتماد أدوات الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي العميق. غير أن هذا التحول، إن لم يُواكب بسياسات حماية اجتماعية ذكية، سيخلق فجوة جديدة بين شرائح المجتمع، ويدفع نحو اضطرابات في سوق العمل، خصوصًا في القطاعات الإدارية والخدمية المتوسطة التي تُعتبر الأكثر هشاشة.

من هنا تبرز الحاجة الملحّة إلى بناء شبكة أمان اجتماعي ذكية تتكامل فيها التكنولوجيا مع برامج التدريب والتأمين ضد البطالة، بحيث يُعاد تأهيل العمالة بدل تسريحها، ويُفتح الباب أمام فرص جديدة في الاقتصاد الرقمي.

إن اختزال التحديث في بضعة قطاعات “واعدة” خطأ استراتيجي فادح. فالتنمية التي لا تطال كل القطاعات الإنتاجية — من الزراعة إلى الصناعة والخدمات — تظل تنمية ناقصة الأثر، لأنها لا تُشرك المجتمع بأكمله في دورة النمو. التجربة العالمية تؤكد أن تنويع الاقتصاد هو مفتاح الاستقرار، وأن الدول التي ركزت على قطاعات محددة دون غيرها دفعت لاحقًا ثمن الهشاشة حين تراجع الطلب العالمي أو تغيّرت ظروف السوق.

الأردن يمتلك ميزة نسبية في قطاعات متعددة: الزراعة الذكية، الصناعات الدوائية، الخدمات التعليمية والصحية، السياحة العلاجية، والطاقة المتجددة. غير أن استثمار هذه الميزات يتطلب ربطها ببنية تحتية رقمية قوية، وبحوكمة مالية واستثمارية شفافة، لتتحول من فرصٍ محتملة إلى واقعٍ مولّد للثروة وفرص العمل.

موازنة 2026 تمثل اختبارًا حقيقيًا لقدرة الدولة على التحول من إدارة النفقات إلى إدارة الاقتصاد. ولن يتحقق هذا التحول إلا عبر ثلاث خطوات مترابطة: توسيع قاعدة الاستثمار والإنتاج بدل الاعتماد على الضرائب، إصلاح حوكمة القطاع العام عبر رقمنة شاملة، وتبنّي رؤية متكاملة لحماية المجتمع من صدمة الأتمتة، من خلال تدريب العاملين وتأهيلهم لاقتصادٍ رقميّ تنافسيّ. فالتنمية الشاملة ليست أرقامًا في الموازنة، بل قدرة الناس على الإحساس بثمارها في حياتهم اليومية. وحين يشعر المواطن أن النعمة تصل إليه فعلاً، عندها فقط يمكن القول إن الموازنة نجحت في تحقيق غايتها.