الوجود الأميركي المحتمل قرب دمشق… تحوّل سياسي وانعكاساته على البنية السورية الداخلية..كتب محسن الشوبكي

 

أثار الجدل حول تقارير استعدادات أميركية لإقامة وجود عسكري محدود قرب دمشق، ثم النفي السوري بصياغة “عارٍ من الدقة”، تحوّلاً أعمق في طبيعة العلاقة بين واشنطن ودمشق. لقد تجنّب النفي إسقاط الفكرة أو رفضها بشكل مطلق، وركّز على وصف التفاصيل بأنها “غير دقيقة”، ما يعكس وجود مسار تفاوضي صامت يتجه نحو إعادة هندسة التواصل الأميركي مع الدولة السورية.

يشير هذا التحول إلى أن الولايات المتحدة انتقلت من إدارة الملف السوري عبر وكلاء ميدانيين وكيانات محلية إلى مسار جديد يتجه نحو دمشق رسميًا، وهو ما أكدته الخارجية السورية بحديثها عن “نقل الشراكات والتفاهمات إلى الحكومة المركزية”. إن الاعتراف بهذه العملية يعكس إدراكًا سوريًا بأن ميزان القوى الإقليمي والدولي يفرض صيغة تعاون جديدة تتجاوز الصيغ التقليدية.

وجود أميركي محدود أو جاهزية لإنشائه يمنح واشنطن قدرة مباشرة على مراقبة الجنوب السوري وخطوط الإمداد الحساسة. وهذا التموضع الاستراتيجي يفرض على إيران مراجعة مسارات تمددها من دمشق إلى لبنان، كما يوجّه رسالة للجانب الروسي بأن واشنطن لم تغادر المشهد، وأن إعادة ضبط النفوذ في سوريا باتت تتطلب مرونة روسية في التعامل مع مستجدات التموضع الأميركي.

داخليًا، يمثل التحول الأميركي–السوري عامل ضغط وإعادة توجيه للقوى المحلية التي استفادت سابقًا من فراغ السلطة المركزية. فالقوى الدرزية الانفصالية في السويداء، التي طرحت مشاريع حكم ذاتي، تجد نفسها أمام واقع مغاير؛ إذ إن أي حضور أميركي مرتبط بتفاهم مع دمشق لن يوفّر لها غطاءً سياسيًا أو أمنيًا، بل قد يعجّل بتسويات داخل السويداء تُعيد دمج القوى المحلية ضمن بنية الدولة أو على الأقل ضمن صيغة أمنية مشتركة، ما يضعف احتمالات استمرار المشاريع الانفصالية في الجنوب.

في الشمال الشرقي، حيث تتركز الإدارة الذاتية الكردية المدعومة أميركيًا، يطرح التحول في العلاقة بين واشنطن ودمشق تحديات جديدة. فالتقارب الأميركي–السوري، إن ثبت، قد يُضعف من استقلالية القرار الكردي، ويعيد ترتيب أولويات واشنطن في التعامل مع القوى المحلية. إذ إن أي تفاهم مباشر مع دمشق قد يدفع واشنطن إلى تقليص دعمها العسكري والسياسي للإدارة الذاتية، أو على الأقل إعادة هيكلته ضمن إطار تفاهمات مركزية. هذا التحول يضع الأكراد أمام خيارين: إما الانخراط في مسار تفاوضي مع دمشق لضمان مكاسب سياسية ضمن الدولة السورية، أو مواجهة عزلة تدريجية في حال تراجع الدعم الأميركي لصالح تفاهمات أوسع مع النظام.

أما في الساحل السوري، حيث ترتكز البنية العلوية، فإن هذا الانفتاح الأميركي باتجاه دمشق يطرح سؤالًا حول مستقبل النفوذ الروسي. التموضع الأميركي، وإن بقي محدودًا، يمنح دمشق فرصة لإعادة تنظيم علاقتها الأمنية مع موسكو، بما يفتح المجال أمام صيغة أكثر توازنًا في إدارة الملف السوري بدلًا من الارتهان الكامل للنفوذ الروسي.

من زاوية أمنية، يوفر الوجود الأميركي المحدود القدرة على تشغيل منظومات مراقبة متقدمة، تقليص حركة التهريب عبر الجنوب، وتعزيز الضغط على شبكات المخدرات التي أصبحت مصدر قلق إقليمي. هذه القدرات، إن فُعّلت، ستكون جزءًا من تفاهمات مشتركة مع دمشق وليس خطوة منفردة، وهو ما يفسّر حرص الخارجية السورية على التأكيد أن أي مسار جديد يجب أن يستند إلى “السيادة الوطنية”.

الاستنتاج الأكثر ترجيحًا أن التحول بين دمشق وواشنطن قائم بالفعل، بينما مسألة الوجود العسكري ما تزال ضمن مرحلة “التثبيت عبر التفاهم” وليس الإعلان. في حال استمر المسار، ستتجه سوريا نحو صيغة جديدة من التموضع الإقليمي تتيح للدولة المركزية استعادة جزء من دورها، وتعيد ضبط القوى المحلية، وتحد من نفوذ الجهات الانفصالية، وتُدخل الساحل والشمال الشرقي في معادلة أمنية أكثر تنوعًا بين موسكو وواشنطن. هذا التحول لن يُحدث انقلابًا مباشرًا، لكنه يشكّل بداية مرحلة يعاد فيها بناء مراكز القوة داخل سوريا وعلى حدودها.