الأردن يدخل عصر الذكاء الاصطناعي: ما الذي نحتاجه لنصبح دولة إدراكية؟ م. سعيد بهاء المصري

 

المرحلة التي وصلت إليها الدولة الأردنية في التحول الرقمي والاقتصاد الإدراكي حتى 14 نوفمبر 2025 وما الذي ينقص استكماله؟
شهدت المملكة الأردنية الهاشمية خلال السنوات الأخيرة خطوات مهمة نحو بناء اقتصاد رقمي حديث، يعتمد على البيانات والتقنيات الذكية، إلا أن الطريق نحو اقتصاد إدراكي كامل ما يزال يحتاج إلى عمل منهجي وتنسيق أعمق بين مؤسسات الدولة والقطاع الخاص والجامعات.
فمن جانب التطور الرقمي، استطاعت الأردن أن تطلق استراتيجية وطنية للتحول الرقمي 2021–2025، وترافق ذلك مع توسيع رقمنة الخدمات الحكومية لتصل اليوم إلى نحو ثلثي الخدمات الأساسية. كما تبنت المملكة سياسة وطنية للذكاء الاصطناعي بأهداف طموحة تهدف إلى تحويل الأردن إلى مركز إقليمي للابتكار الرقمي، وارتفع ترتيب المملكة عالميًا في مؤشرات الجاهزية للذكاء الاصطناعي، ما يعكس وجود بنية أولية يمكن البناء عليها.
وفي مجال المهارات، أطلقت الدولة مبادرات واسعة لتدريب الشباب على المهارات الرقمية ولغات البرمجة، وتم تعزيز استخدام الحوسبة السحابية، وتوسيع شبكات الإنترنت وتحسين بيئات الريادة والابتكار. وفي الوقت نفسه، بدأت بعض القطاعات مثل المالية والتعليم وسلاسل التوريد بتطبيق أنظمة تعتمد على البيانات والذكاء الاصطناعي بدرجات متفاوتة.
لكن، ورغم كل هذه الخطوات، ما يزال الوصول إلى اقتصاد إدراكي كامل يتطلب تجاوز فجوات أساسية تعيق الاستفادة القصوى من الثورة الصناعية الرابعة. فالبيانات الحكومية ما زالت مجزأة بين الوزارات والمؤسسات، ولا توجد بنية وطنية موحدة لجمعها وتحليلها وتمكين الذكاء الاصطناعي منها. كما أن جودة البيانات في كثير من القطاعات ما زالت بحاجة لتنظيم ومعايير واضحة، خصوصًا في القطاعات الإنتاجية مثل الزراعة والمياه والطاقة والنقل.
ويبرز تحدٍّ آخر أكثر عمقًا، وهو أن القدرات النفسية والفكرية والإدارية التي يحتاجها الاقتصاد الإدراكي مثل التحليل، التفكير المنهجي، اتخاذ القرار المبني على البيانات ما تزال لا تتطور بنفس سرعة التقنية. ولا يزال جزء من الجهاز الحكومي يعمل بعقلية «الإجراء الروتيني» بدل «القرار الذكي المبني على تحليل البيانات».
وتبقى البنية التحتية لجمع البيانات في الميدان مثل الحساسات، ونظم إنترنت الأشياء، والطائرات المسيّرة، ومراكز البيانات الحديثة بحاجة إلى توسّع كبير لتوليد «الوقود» الذي يعتمد عليه الذكاء الاصطناعي. كما أن الإطار التشريعي لحوكمة البيانات والذكاء الاصطناعي، ورغم وجوده بصورة عامة، إلا أنه يحتاج إلى تحديثات تضمن الشفافية وحماية الخصوصية وتشجّع الابتكار.
تقدير القوى العاملة الوطنية المطلوبة لبناء وتشغيل الاقتصاد الإدراكي
ولا يمكن لأي دولة، بما فيها الأردن، أن تنتقل إلى اقتصاد إدراكي حقيقي دون توفير قوة عمل بشرية متخصصة قادرة على بناء المنظومة الرقمية وتشغيلها والإشراف عليها. فنجاح الأنظمة الذكية يعتمد على الإنسان أولًا في التصميم، وفي التشغيل، وفي الرقابة لأن الخوارزميات تحتاج دائمًا إلى عقل بشري يوجّهها، يدقق مخرجاتها، ويمنع انحرافها عن السياسات العامة.
وفي الحالة الأردنية، تشير تقديرات الخبراء إلى أن بناء وتشغيل منظومة اقتصاد إدراكي وطني يتطلب توفير الفئات التالية:
1) بين 12,000 – 15,000 مبرمج ومطوّر بيانات
2) ما لا يقل عن 20,000 مدخل بيانات ومشغّل أنظمة
3) بين 2,000 – 3,000 محلل بيانات وخبير ذكاء اصطناعي
4) فرق إشراف رقابي داخل كل وزارة
5) مراكز تدريب وطنية لإعادة تأهيل 30,000 – 40,000 موظف حكومي
التكلفة التقديرية للتحول الرقمي الكامل في الأردن
ورغم أن الحكومة خصّصت نحو 31.7 مليون دينار لبرامج التحول الرقمي عبر وزارة الاقتصاد الرقمي والريادة في موازنة 2025، فإن هذه المخصصات تغطي فقط الشق الإداري والتشغيلي من التحول، ولا تمثل التكلفة الحقيقية لبناء منظومة رقمية وإدراكية متكاملة للدولة.
فالوصول إلى اقتصاد إدراكي كامل بما يشمل البنية التحتية للبيانات، وأنظمة الذكاء الاصطناعي، وأمن المعلومات، وربط الوزارات، وتدريب القوى العاملة يحتاج إلى خطة تمويل وطنية متعددة السنوات.
وبناءً على تقديرات الخبراء، فإن التحول الرقمي الكامل مع التدريب والتأهيل قد يتطلّب مئات الملايين من الدنانير خلال فترة تمتد من 3 إلى 5 سنوات، مما يجعل الاستثمار في التحول الرقمي ضرورة من ضرورات الأمن الاقتصادي للدولة.
نحو حملة توعية وطنية
إن هذه الفجوة بين ما تحقق وما يجب تحقيقه تجعل من الضروري إطلاق حملة توعية وطنية تستهدف المجتمع، وصناع القرار، والباحثين، لتوضيح أن الذكاء الاصطناعي ليس تطبيقًا نحمّله على الهاتف، بل منظومة تعيد تشكيل الاقتصاد والإدارة والتعليم والمجتمع.
فالتحدي اليوم ليس تقنيًا فقط، بل وطني وإداري وفكري، ويتطلب تعبئة شاملة تقود الأردن نحو المستقبل الإدراكي بثقة واقتدار.