بين التعليم المرتفع، وضعف المشاركة الاقتصادية، ومتطلبات التحديث السياسي والإرادة السياسية العليا
مع بداية الحملة الدولية لمناهضة العنف ضد النساء، يظهر سؤال لا يُطرح كثيرًا، رغم أنه يكشف واحدًا من أعمق أشكال العنف البنيوي: لماذا لا نرى النساء في المحافظات يترشحن لرئاسة البلديات بشكل كبير؟ ولماذا تبقى هذه المواقع بعيدة عنهن، رغم أن الأرقام تقول إنهنّ الأكثر تعليمًا والأكثر حضورًا في مؤسسات التعليم العالي؟
بيانات 2024 تشير إلى أن النساء يشكلن ما يقارب 60% من خريجي الجامعات، ونسبتهن في الماجستير وصلت إلى 60.4%، وفي الدكتوراه 57.1%، حيث إن هذا التفوق لا ينتقل إلى سوق العمل. إذا أن مشاركة المرأة الاقتصادية ما تزال منخفضة عند 14.9% مقابل 53.4% للرجال، هذا يعني أن المجتمع يستثمر في تعليم النساء، لكن الاقتصاد لا يستوعب طاقاتهن بالشكل الذي يسمح لهن ببناء مسار مهني مستقر.
وعندما نصل إلى البطالة، يصبح الواقع أكثر وضوحًا ففي عام 2023 بلغ المعدل العام 22%، بينما وصلت بطالة الإناث إلى 30.7%، مقابل 19.6% للذكور حسب الإحصاءات العامة، وفي عام 2024 ارتفعت بطالة النساء إلى 32.9%، فهذه الأرقام تشرح جزءًا مهمًا من القصة: النساء يتعلمن، ثم ينتظرن فرصة عمل لا تأتي أو تكون بيئة عملها طارده، حيث ومن تبقى منهن في العمل، تبقى في عمل غير مستقر، ففي 2020 حسب الأرقام الرسمية المعلنة خرجت 2,347 امرأة من العمل لأسباب اقتصادية، و621 امرأة في 2021، و253 في 2022. ولأسباب متعلقة بالحوافز، خرجت 1,181 امرأة في 2020، و1,422 في 2021، و872 في 2022. هذه الأرقام تعني أن الاستقرار الوظيفي بالنسبة للنساء هشّ، وقدرتهن على التخطيط لأي مشاركة سياسية مرتبطة بقدرة اقتصادية غير متوفرة عند أغلبهن.
إلى جانب ذلك، ترأس النساء 20.8% من الأسر الأردنية، والتي يبلغ مجموعها 2 مليون ونصف أسرة في الأردن، وهذا يعني أن نصف مليون أسرة النساء يقمن بدور الإعالة والرعاية معًا فيها، وهذا الحمل يقلل بشكل مباشر من إمكانية التفكير في الترشح لموقع يحتاج وقتًا وتحركًا يوميًا، مثل رئاسة بلدية في محافظة.
رؤية التحديث الاقتصادي وضعت هدفًا برفع مشاركة المرأة الاقتصادية إلى أكثر من 28% بحلول 2033. حقيقة هدف مهم، لكنه لن يتحقق دون معالجة فجوة الأجور التي بلغت 13.9% في القطاع العام و14.1% في القطاع الخاص عام 2022. ففجوة الأجور بين الجنسين تعتبر من أهم ما يحدد قدرة المرأة على تمويل حملة انتخابية، أو تخصيص وقت للوجود في الميدان المحلي.
وعلى المستوى السياسي، ارتفعت نسب تمثيل النساء في مجلس النواب إلى 19.6% عام 2024، في أعلى نسبة خارج إطار التعيين، كما ارتفعت عضوية النساء في الأحزاب إلى 43.06% بنهاية الربع الأخير من عام 2025 وذلك حسب أرقام الهيئة المستقلة للانتخاب، صحيح أن هذا الارتفاع يكشف استعدادًا عامًا للمشاركة، لكنه لا ينعكس بالقدر نفسه على مواقع القيادة المحلية.
ورغم هذا التذبذب، تبقى الإرادة السياسية العليا واضحة، فجلالة الملك قدّم موقفًا ثابتًا يدعم مشاركة المرأة في الحياة السياسية والعامة، وأكّد أن التحديث السياسي لا يكتمل دون حضور المرأة الأردنية في مواقع القيادة، والاتجاه السياسي وفّر قاعدة تشريعية متقدمة، لكن انتقاله إلى البلديات يحتاج إلى تغييرات أعمق على مستوى المجتمعات المحلية، وثقافة الانتخابات، وشبكات النفوذ التي تتحكم في المشهد.
في المحافظات، العوامل الاجتماعية تلعب دورًا حاسمًا لرئاسة البلدية لأنها ليست منصبًا عاديًا، إنما شبكة نفوذ وعلاقات وخدمات يومية، وتتطلب وقتًا، وموارد، وقدرة على الحركة، ومساحة اجتماعية آمنة. أغلب النساء يواجهن قيودًا على الحركة، وحدودًا في الدعم الاجتماعي، ونظرة مسبقة تشكك بقدرتهن على إدارة الشأن المحلي. هذه القيود لا تُعلن بصوت مرتفع، لكنها تعمل كجدار ثابت أمام أي امرأة تفكر بالترشح.
وهذا شكل من أشكال العنف البنيوي الصامت: عنف لا يُرى، لكنه يحدد من يستطيع الوصول للقيادة ومن يبقى خارجها.
لهذا، عندما نسأل: لماذا لا تصل النساء لرئاسة البلديات؟
فالجواب لا يتعلق بالرغبة أو الكفاءة.
الجواب يبدأ من الاقتصاد، ويمر عبر السياسات الاجتماعية، ويصل إلى ثقافة المشاركة المحلية التي ما تزال مغلقة في وجه النساء، رغم كل ما تحقق سياسيًا وتشريعيًا.
وإذا أردنا نساء في رئاسة البلديات، فإننا نحتاج إلى تغييرات عملية وواضحة:
عمل مستقر، حماية اجتماعية، دخل عادل، نقل عام، دعم للنساء المعيلات، صناديق لتمويل الحملات النسائية، تدريب قيادي حقيقي، وشبكات حزبية قادرة على تحويل المشاركة إلى تأثير، لا مجرد عضوية.
النساء جاهزات.
الأرقام تشهد.
والإرادة السياسية واضحة.
ويبقى السؤال: متى تكون البيئة المحلية مستعدة للخطوة التالية؟