حين تتحول القضايا الأخلاقية إلى جدل عام: كيف نحمي الثقة بالعلاج النفسي ونفهم مخاطر التحويل المضاد؟

 

ناجي العواجنه- أخصائي نفسي – باحث دكتوراه في علم النفس
د عروبه شواقفه – أخصائية نفسية وأسرية

شهدت الساحة الأردنية في الآونة الأخيرة جدلاً واسعاً بعد تداول إحدى الحملات ذات الطابع النسوي ادعاءات بوجود تجاوزات أخلاقية منسوبة إلى أحد الأخصائيين النفسيين، تتضمن ادعاءات بالتحرش أو استغلال المراجعات. وعلى الرغم من أن النقاش العام حول أخلاقيات المهنة صحّي في جوهره، إلا أن طريقة تداول هذه القضايا على المنصات الرقمية تحمل آثاراً جانبية معقدة، قد تتجاوز حدود التوعية، وتمسّ الثقة بالعلاج النفسي ذاته.

الحديث عن أخلاقيات العلاج النفسي ليس ترفاً أكاديمياً. كل الجمعيات المهنية العالمية، من بينها الجمعية الأمريكية لعلم النفس (APA) والجمعية البريطانية (BPS)، تؤكد أن التعامل مع الشكاوى الأخلاقية يجب أن يتم عبر قنوات مؤسسية واضحة، تبدأ بالمسارات القانونية والمهنية وتنتهي بإجراءات المحاسبة الرسمية. هذه المؤسسات صُممت لضمان العدالة للطرفين؛ فالمراجِعة التي تتعرض لسلوك غير لائق من حقها الحماية، والمعالج الذي تُثار حوله الاتهامات من حقه أن يُنظر في قضيته ضمن إجراءات عادلة ومبنية على الأدلة. عندما تنتقل القضية إلى الفضاء الرقمي، تتشوّه هذه المعادلة، ويتحوّل النقاش من “مساءلة مهنية” إلى “مسرحة اجتماعية”، وهو نمط موصوف في الأدبيات الاجتماعية بوصفه «عدالة جماهيرية» تعيق ولا تدعم العدالة الحقيقية.

الإشكال الأكبر يكمن في أن التداول العلني لمثل هذه القضايا لا يضرب المعالج وحده؛ إنما يضرب الثقة المجتمعية بالعلاج النفسي. تشير دراسات في علم النفس المجتمعي إلى أن الضجيج الإعلامي حول التجاوزات الفردية يُعمّم لدى الجمهور صورة غير دقيقة عن المجال ككل، ويزيد من وصمة طلب المساعدة. بهذا يتحوّل الخطاب من “حماية المراجع” إلى “إنتاج خوف جماعي”، وهذا يتناقض مع الهدف المعلن للخطابات التوعوية.

ضمن هذا السياق تبرز ضرورة مناقشة مفهوم «التحويل المضاد» (Countertransference)، الذي يُعد أحد أهم مصادر الخطر الأخلاقي إذا لم يُدرَّب المعالج على التعامل معه. التحويل المضاد يشير إلى الاستجابات الانفعالية التي يشعر بها المعالج تجاه المراجع، سواء كانت إيجابية أو سلبية، واعية أو غير واعية. هذه الظاهرة ليست علامة ضعف أو انحراف مهني بذاتها؛ هي جزء طبيعي من العملية العلاجية، لكنها تتحوّل إلى خطر عندما لا يراقبها المعالج أو لا يمتلك الأدوات المهنية لفهمها وضبط تأثيرها.

تُظهر الأدبيات النفسية، مثل أعمال “غيل و ماسون 2012” و “هايس 1995”، أن التحويل المضاد غير المضبوط هو البوابة الأوسع لانتهاك الحدود المهنية، سواء على شكل تقارب عاطفي زائد، أو عدائية، أو حاجة مرضية للقبول من المراجع. هنا يظهر الفرق الجوهري بين المختص المدرب وبين من يفتقر للضبط الذاتي المهني: الأول يعالج التحويل المضاد داخل الإشراف المهني (Supervision)، ويستخدمه كأداة لفهم ديناميات العلاقة العلاجية، بينما الثاني قد ينزلق إلى إعادة إنتاج صدماته أو رغباته غير المحلولة داخل الجلسة دون وعي.

عندما يحدث التحويل المضاد، لا يُنتظر من المعالج أن “يتجاهله” أو “يقاومه”؛ بل أن يتعامل معه بشكل منهجي. المعالج المحترف يلجأ إلى الإشراف، ويفحص مشاعره الخاصة، ويضبط الحدود بينه وبين المراجع بحسب مدونات السلوك المهنية. هذا المسار لا يحمي المراجع فقط، بل يحمي المعالج ذاته من الانزلاق في مناطق قد تُفهم أو تُستخدم كدلائل على انحراف أخلاقي.

في ضوء ذلك، يصبح التعامل مع الادعاءات الأخلاقية مسؤولية مشتركة بين المجتمع والمهنيين. المجتمع يملك الحق في مساءلة المجال، لكن من خلال آليات تحقق العدالة لا من خلال التشهير. والمهنيون عليهم واجب تعزيز الشفافية، والالتزام بالأخلاقيات، وضبط التحويل المضاد، وممارسة الإشراف كجزء لا يتجزأ من الممارسة، وليس خياراً ثانوياً. لا أحد معصوم من الخطأ، لكن الخطأ المهني لا يصحّ أن يتحول إلى عاصفة شعبية، كما لا يصحّ تجاهله بحجة الحفاظ على صورة المجال.

القضية الأساسية ليست في طرف أو آخر، بل في كيفية إدارة النقاش بحكمة ومسؤولية. عند احترام الإجراءات المهنية والقانونية، وعند اعتراف المختصين بحدودهم البشرية ومراقبة استجاباتهم الداخلية، يمكن تحويل الأزمات إلى فرص لتحسين الجودة، لا إلى مساحات للانقسام وفقدان الثقة.

في نهاية المطاف، الثقة بالعلاج النفسي تُبنى بالحماية لا بالتشهير، وبالمحاسبة المهنية لا بالانتقام الرمزي، وبإدراك أن العلاقة العلاجية يمكن أن تكون نافذة للشفاء بقدر ما يمكن أن تكون مساحة للضرر إذا غابت عنها الأخلاقيات والضبط المهني