شهد مطلع هذا الشهر تصريحات المبعوث الأمريكي توم باراك التي مثّلت تحولًا مفصليًا في استراتيجية واشنطن تجاه طهران، حيث أعلن التخلي الرسمي عن مسار “تغيير النظام”، مفضلاً تفويض إدارة المواجهة إلى “دول المنطقة”. هذا الإعلان، الذي تزامن مع التوترات العميقة التي أحدثتها العملية العسكرية الأخيرة للكيان الصهيوني، يُفهم في أروقة التخطيط الاستراتيجي ليس انسحابًا أمريكيًا، بل إعادة توزيع للمخاطر والأدوار. إنها إشارة واضحة للكيان وللقوى الإقليمية الفاعلة بأن العبء التشغيلي لردع النفوذ الإيراني أصبح مسؤوليتهم المباشرة، مما يمنحهم حرية عمل واسعة وغير مسبوقة في التعامل مع “نصف الرواية غير المكتمل” التي وصفها باراك.
بالنسبة لطهران، فإن هذه الاستراتيجية قد تشكل تحديًا وجوديًا، إذ بات الرد الإيراني محكومًا بضرورة إثبات مصداقية الردع دون الانزلاق إلى حرب إقليمية شاملة مع الولايات المتحدة. السيناريو المرجح هو التصعيد التكتيكي عبر حلفائها : تعميق وتوسيع الهجمات الصاروخية والمسيرة التي تنطلق من الميليشيات المتحالفة في نقاط التماس الإقليمية، وهو خيار يتيح لطهران الإنكار المعقول للمسؤولية مع تحقيق أقصى قدر من الإيذاء. وفي مستوى أكثر خطورة، قد تلجأ إيران إلى استهداف المصالح الحيوية والاقتصادية للحلفاء الإقليميين، أو تهديد الملاحة الدولية في المضائق الحيوية، ما يضمن إحداث صدمة عالمية تجبر واشنطن على التدخل الدبلوماسي. كما أن هذا الموقف الأمريكي يمثل مبررًا إضافيًا لتسريع البرنامج النووي، حيث يرى النظام أن الترسانة النووية هي الضمانة الوحيدة والمطلقة لبقائه في مواجهة الحرية العملياتية الممنوحة للكيان الصهيوني.
إن جوهر استراتيجية باراك لا يكمن في الإخلاء، بل في التكامل الأمني الفعّال؛ فالغاية النهائية من تفويض الملف لدول المنطقة قد يدفعها لتشكيل تحالف أمني واستخباراتي إقليمي عميق. هذا التحالف، الذي يعمل غالبًا تحت مظلة سرية وغير معلنة، يهدف إلى ربط القدرات الدفاعية الجوية والاستخبارية للكيان الصهيوني وباقي القوى الإقليمية، لخلق شبكة رصد وإنذار موحدة ضد التهديدات الباليستية الإيرانية وتدفق الأسلحة. هذا التكامل الاستخباري هو الآلية التي تضمن استمرارية الضغط وكفاءته. لذلك، فإن تصريحات واشنطن الأخيرة لا تعني تخفيف الضغط، بل تعني تحويله من نموذج مركزي تقوده أمريكا إلى نموذج إقليمي متشارك وممكّن، يضع الكيان الصهيوني في طليعة الجهود القتالية والاستخبارية ضد النفوذ الإيراني، وهو ما يؤكد أن المنطقة دخلت مرحلة جديدة من المواجهة المباشرة وغير المتكافئة.