سيّدة الشتاء عاطف أبـوحجر

 

الشتاء فصلٌ لا يأتي خلسةً ولا يمرّ مرورًا عابرًا؛ إنّه يدخل حياتنا بثقله الكامل، ببرودته التي تستوطن الجدران، وبأمطاره التي تحوّل الشوارع إلى مرايا مرتجفة. في الشتاء تتغيّر ملامح الأيام: يصبح الصباح أبطأ، والليل أطول، والبيوت أكثر صمتًا إلّا من صوت الريح وهي تعاتب النوافذ. ومع كلّ موجة برد ندرك أنّنا أمام فصلٍ لا يُشبه غيره؛ فصلٍ يجمع العائلة حول الدفء كما يجمع المطرُ الطرقاتِ في جدولٍ واحد. وسط هذا العالم الرمادي، تبرز سيّدةُ الشتاء والقعدة… صوبة علاء الدين، أيقونةُ الشتاء—كأنّها شمسٌ مصغّرة تعيد ترتيب دفء الحياة في أبسط تفاصيلها.
أين تلك الأيام الجميلة حين كان للشتاء نكهة، وللبيت رائحة كاز لا تُمحى، وللجلسة هيبة حول سيدة القعدة والشتاء “صوبة علاء الدين”؟ كانت الصوبة حينها ليست مجرد جهاز تدفئة، بل عضو شرف في العائلة، بل يمكن القول إنها رئيس مجلس إدارة الشتوية الأردنية.

أما عن السيرة الذاتية لسيدة الشتاء، فهي صوبة إنجليزية المنشأ، هاجرت إلينا في منتصف الخمسينات محمّلة بالوقار والتكنولوجيا الكازية الفاخرة. ولاحقًا صُنعت في العراق ثم في الأردن، وخدمت الأردنيين بإخلاص في بيوتهم، ومكاتبهم، ومدارسهم، وحتى في ثكناتهم العسكرية.

لم تكتفِ بدورها الرسمي كوسيلة تدفئة، بل انغمست في حياة الناس اليومية:

غلَّت الشاي ببطء لذيذ،

وطبخت العدس حتى صار أيقونة الشتاء،

وسخّنت الخبز فصار مقرمشًا كالحكايات القديمة،

ونشّفت الجوارب المبلّلة وكأنها مغسلة بخار متواضعة،

وسخّنت أوعية الماء لتمنحنا حمّامًا شتويًا على استحياء.

انتهى عهدها مع قدوم الصوبات الحديثة والمكيّفات، لكنها تركت خلفها بصمة عميقة في قلوب الأردنيين، وذكريات لن تمحوها تكنولوجيا “الريموت كنترول”.

سيدة القعدة… أيقونة سريالية؛ كان مشهدها الأسطوري يبدأ برائحة الكاز التي تسبقها بثوانٍ، ثم خشخشة اشتعالها التي تشبه موسيقى تصويرية لفيلم أبيض وأسود. بعدها يبدأ العرض: اللهب الأحمر ثم الأزرق يرقص داخل الزجاج، والحرارة تتسلّل إلى أجسادنا ببطء، كأنها تقول: “صبرًا، فقد أتيتُ لإنقاذكم”.

لم تكن مجرد آلة، بل كانت منصة متعددة الاستخدامات: طباخة، وسخّان، ومنشر، وأحيانًا صوبة معنويات. يكفي أن ترى أمّك وهي تضع صينية الشاي على رأسها، أو أباك وهو يقلّب الجوارب فوقها، حتى تُدرِك أن الشتاء صار أليفًا فيها، مهما كان عابسًا في الخارج.

وحين تآمرت التكنولوجيا عليها، وجاء زمن “المكيّف” و”الصوبة الذكية اللي تعمل على الهيدروجين الأخضر الذي لا ينتج ثاني أكسيد الكربون”، بدأنا ننكر الجميل، كأننا لم نجلس يومًا متحلّقين حولها مثل كواكب تدور حول شمس صغيرة. اليوم صرنا نتدفأ بلا رائحة كاز، بلا طنجرة عدس تبتسم على رأسها، بلا ذكريات… نتدفأ، نعم، لكننا نفتقد تلك “الروح” التي كانت تجعل الشتاء حدثًا عائليًا لا مجرد موسم عابر.

ومع قدوم الشتاء، قد نُخرج بطانية حرارية، أو نشغّل صوبة كهرباء أو غاز، أو حتى صوبات البيوغاز أو البيوميثان، لكننا في أعماقنا سنظل نشتاق لتلك الأيام حين كانت صوبة علاء الدين هي “سيّدة القعدة” وملكة الشتوية بلا منازع. لقد رحلت، لكنها ما زالت حيّة في الذاكرة… وكلما هبّت رياح كانون، وقَرَصَنا برد المربعانية، شممنا في البرد رائحة كازٍ وهمية، تذكّرنا أننا كنّا ذات يوم “أدفأ” بكثير.