التقاعد المبكر ومسار الحوار الوطني حول الضمان الاجتماعي حماده أبو نجمة

 

ما أظهرته نتائج الدراسة الاكتوارية الحادية عشرة للضمان الاجتماعي من أن التقاعد المبكر كان العامل الأكثر تأثيرا في الضغط على منظومة الضمان، سواء من حيث نسبته المرتفعة بين المتقاعدين أو من حيث استحواذه على الحصة الأكبر من فاتورة التقاعد الشهرية، يشير إلى أن التقاعد المبكر سيكون العنوان الأهم في مسار البحث عن حلول لتأخير نقاط التعادل.

غير أن هذا التشخيص على أهميته لا يكتمل أثره التحليلي إلا بالانتقال إلى تفكيك هذه الظاهرة، ابتداء من فهم كيفية تشكلها ووصولا إلى حلول عملية وفعالة لآثارها، فالتقاعد المبكر لم يتوسع نتيجة تفضيل العاملين له وإنما بسبب سياسات إنهاء الخدمات في القطاعين العام والخاص التي أدت إلى إخراج أعداد كبيرة من العاملين والموظفين من سوق العمل في أعمار إنتاجية، وهو ما حوله من خيار استثنائي إلى أحد أبرز مصادر الضغط على منظومة الضمان الاجتماعي.

فالتوسع الكبير الذي شهدته السنوات الأخيرة فيما يمكن وصفه بإنهاء الخدمات الجماعي في القطاع العام في سن مبكرة نتيجة استخدام المادة (100) من نظام إدارة الموارد البشرية، حول التقاعد المبكر إلى أداة لامتصاص آثار سياسات لم تصمم أصلا ضمن منطق الاستدامة التأمينية، فرغم أن فلسفة نص هذه المادة تقوم على استخدامها في حالات فردية وفي ظروف خاصة، تشير البيانات إلى أن حالات التقاعد المبكر هذه فاقت كثيرا ما سجله القطاع الخاص، وبهذا المسار لم يعد الخروج من سوق العمل مرتبطا بتدرج مهني طبيعي أو بقرار شخصي للموظف، بل أصبح نتيجة قرارات إدارية نقلت عبء كلف إنهاء الخدمة من الجهة المشغلة إلى منظومة الضمان الاجتماعي.

كما تزامن ذلك مع تغير جوهري في القطاع الخاص طرأ عام 2019 على تفسير القضاء للمادة (23) من قانون العمل الخاصة بإشعار إنهاء الخدمة، فبعد أن كان الفهم المستقر للنص يذهب إلى أن الإشعار ينظم طريقة التبليغ بإنهاء الخدمة ولا يشكل بحد ذاته سببا مشروعا لها، أصبح يفسر لاحقا على أن مجرد توجيه الإشعار يعتبر إنهاء قانونيا للعقد دون اشتراط وجود أسباب مبررة، حيث أضعف هذا التحول الاستقرار الوظيفي وفتح المجال واسعا أمام إنهاء خدمات العاملين خصوصا من هم في أعمار متقدمة ليجدوا أنفسهم فجأة خارج سوق العمل مع فرص محدودة للغاية للعودة إليه.

ممارسات إنهاء الخدمات هذه التي سادت القطاعين العام والخاص في السنوات الأخيرة تمثل تعارضا مع معايير العمل الدولية التي أرستها اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم (158) بشأن إنهاء الاستخدام، والتي توجب أن يكون إنهاء خدمة العامل قائما على سبب مشروع ومبرر محصور إما بأسباب سلوكية أو مهنية تتعلق بالعامل، أو بأسباب اقتصادية أو فنية أو تنظيمية تتعلق بالمؤسسة، أو بانتهاء عقد العمل محدد المدة، وحيث أفرغ هذا المبدأ من مضمونه في التشريع وفي التطبيق فقد أصبح إنهاء الخدمة في القطاعين العام والخاص مدخلا منظما لدفع العاملين نحو التقاعد المبكر بدل استمرارهم في سوق العمل، الأمر الذي راكم الضغط على منظومة الضمان الاجتماعي.

وما يثير الاستغراب في هذا الشأن ما تم تداوله مؤخرا حول نية إعادة طرح تعديل المادة (31) من قانون العمل، بما يسمح لأصحاب العمل بإنهاء خدمات نسبة من العاملين دون الرجوع إلى اللجنة الثلاثية المختصة ودون تقديم مبررات قانونية بنسبة 15% من العاملين سنويا، وهو التعديل الذي رفضه مجلس النواب، وعليه فإن إقرار مثل هذا التوجه مهما كانت النسبة التي سيتم اعتمادها يعني عمليا تشريع إنهاء الخدمات الجماعي وتحويله إلى أداة جديدة توسع قاعدة الخارجين من سوق العمل ويغذي بصورة مباشرة ظاهرة التقاعد المبكر وتزيد الضغط على منظومة الضمان الاجتماعي.

وإلى جانب الخلل المرتبط بسياسات إنهاء الخدمة والتقاعد المبكر، هناك عوامل أخرى لا تقل أثرا على المسار المالي للضمان الاجتماعي، وفي مقدمتها التهرب التأميني وضعف الامتثال، إذ تشير التقديرات إلى أن أكثر من 22% من العاملين في القطاع المنظم إما غير مشمولين بالضمان الاجتماعي أو مشمولون على أجور تقل عن أجورهم الحقيقية.

يضاف إلى ذلك ملف الديون المتراكمة لصالح مؤسسة الضمان الاجتماعي والتي تقدر بنحو مليار دينار وتمثل اشتراكات مستحقة لم يتم تحصيلها في وقتها، وهذه الديون من شأن تحصيلها ولو تدريجيا أن يخفف الضغط عن النظام في المرحلة التي تسبق نقطة التعادل الأولى، كما أن تعزيز التفتيش التأميني وتحسين أدوات التحصيل وربط الامتثال التأميني بالحوافز والدعم تمثل مسارات عملية ذات أثر مباشر على الاستدامة دون الحاجة إلى أي تعديل تشريعي.

كما يشكل توسيع الشمول التأميني عامل دعم مهم إذا أُدير بمنطق الأثر الصافي لا سيما من خلال شمول العمالة غير الأردنية، فطبيعة استفادة هذه الفئة تتركز غالبا في تعويض الدفعة الواحدة ولا تولد التزامات تقاعدية طويلة الأمد، وهو أمر يعزز الإيرادات دون أن يترتب عليه ضغط مستقبلي مماثل على النفقات.

وعليه فإن ما تكشفه نتائج الدراسة الاكتوارية لا تنحصر معالجته حكما بإجراء تعديلات تشريعية بقدر ما يعكس ضرورة معالجة السياسات والممارسات التي تحكم سوق العمل وعلاقته بمنظومة الضمان الاجتماعي، فالتحديات التي أبرزتها الدراسة وفي مقدمتها التقاعد المبكر لا يمكن معالجتها بمنطق الحسابات المالية المجردة بل من خلال مراجعة السياسات العامة التي أدت إلى إخراج أعداد متزايدة من العاملين من سوق العمل في سن مبكرة.

ومن هنا فإن الحوار الوطني ينبغي أن يتجاوز النقاش التقني حول العجز أو الفائض وأن يحيط بمختلف أبعاد هذه القضية بما يشمل سياسات التشغيل وقواعد إنهاء الخدمة واستقرار العمل وجودة الاشتراك، والامتثال التأميني، وكفاءة إدارة الموارد، فاختزال الحوار في منظومة التأمينات بمعزل عن هذه القضايا سيؤدي إلى معالجات جزئية لا تعالج جذور المشكلة، فالغاية الأساسية من هذا الحوار يجب أن تنطلق من النظر إلى الضمان الاجتماعي باعتباره أداة للحماية والاستقرار الاجتماعي لا مجرد صندوق مالي يدار بمنطق الربح والخسارة.