الجزائر على مفترق طرق: احتضان الإمام محمود ديكو وانعكاسات ذلك على صورة الحكومة الجزائرية دوليا وإقليميا

الجزائر على مفترق طرق: احتضان الإمام محمود ديكو وانعكاسات ذلك على صورة الحكومة الجزائرية دوليا وإقليميا

تجد الجزائر نفسها اليوم أمام اختبار دبلوماسي وأمني دقيق، في ظل التطورات المتسارعة التي يشهدها المشهد السياسي والأمني في مالي، وعودة الإمام محمود ديكو إلى الواجهة من بوابة المنفى الجزائري، بخطاب يتجاوز الوعظ الديني ليلامس بشكل مباشر حدود الفعل السياسي والتحريض على تغيير نظام الحكم في دولة جارة تعيش أصلًا وضعًا أمنيًا هشًا.

منذ ديسمبر 2023، يقيم الإمام محمود ديكو في الجزائر، وبعد فترة من الصمت، أعلن في الخامس من ديسمبر 2025 عن تأسيس تحالف معارض جديد تحت مسمى “ائتلاف القوى من أجل الجمهورية”، قبل أن يخرج في 22 ديسمبر بمقاطع فيديو دعا فيها الماليين إلى “الانتفاض” و”العصيان” لإسقاط نظام المرحلة الانتقالية بقيادة العقيد أسيمي غويتا. ورغم محاولته إضفاء طابع سلمي على دعوته، فإن مضمون الخطاب وسياقه السياسي يثيران تساؤلات جدية حول تداعيات هذا التحرك، ليس فقط على مالي، بل على الجزائر نفسها.

ويأتي ذلك في وقت تشهد فيه باماكو وضعا أمنيا حرجا يكاد يخرج عن السيطرة، خاصة مع استفحال الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة وعلى رأسهم جماعة نصرة الإسلام والمسلمين وحصارهم العاصمة من جهة وسيطرة جبهة تحرير أزواد على الشمال وتحالفها مع هذه التنظيمات الإرهابية من جهة أخرى.

من الخطاب الديني إلى المشروع السياسي العابر للحدود

لا يقتصر مشروع “ائتلاف القوى من أجل الجمهورية” على المطالبة بالعودة إلى النظام الدستوري أو توسيع الحريات، بل يتعداه إلى الدعوة الصريحة لفتح حوار شامل مع الجماعات المسلحة، بما فيها جماعة نصرة الإسلام والمسلمين (JNIM) ذات الارتباطات الجهادية، وجبهة تحرير أزواد (FLA) الانفصالية. كما يدعو الائتلاف إلى العصيان المدني، والعصيان “الأخلاقي” داخل الجيش، و”المقاومة القضائية”، وهي مصطلحات تحمل في طياتها دعوة لتفكيك بنية الدولة من الداخل.

هذا التوجه يضع الجزائر، بحكم استضافتها للإمام ديكو، في موقع بالغ الحساسية، خاصة أن باماكو تنظر إلى أي دعم – مباشر أو غير مباشر – لشخصيات تدعو إلى التحالف مع جماعات مسلحة على أنه مساس صريح بسيادتها وأمنها القومي.

اتهامات علنية وتوتر دبلوماسي متصاعد

خلال كلمته أمام الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة التي انعقدت سبتمبر الفارط في نيويورك ، وجّه رئيس الوزراء المالي عبد الله مايغا اتهامات مباشرة للجزائر بـ“دعم الإرهاب الدولي”، محذرًا من أن بلاده “لن تتوانى في الرد” على ما وصفه بالاعتداءات. وقال بلهجة شديدة: “على كل رصاصة تطلق علينا سنرد بالمثل، وعلى كل كلمة سيئة سنرد بالمثل”، داعيًا الجزائر إلى التوقف عن تغذية النزاع بدل المساهمة في إرساء السلام.

ولم تكن هذه المرة الأولى التي تُطلق فيها باماكو مثل هذه الاتهامات، إذ سبق لوزارة الخارجية المالية، مطلع هذا العام، أن اتهمت الجزائر بدعم جماعات إرهابية تنشط على الأراضي المالية. وفي هذا السياق المشحون، يبدو أي تساهل جزائري مع أنشطة سياسية معارضة انطلاقًا من أراضيها وكأنه تأكيد غير مباشر لهذه الاتهامات، حتى وإن لم يكن ذلك مقصودًا.

الجزائر بين إرث الوساطة ومخاطر الاصطفاف

تملك الجزائر رصيدًا دبلوماسيًا مهمًا في مالي، لا سيما من خلال اتفاق السلام الموقع عام 2015 بين الحكومة المالية والحركات المتمردة، والذي صمد قرابة عشر سنوات رغم تعثر تطبيقه. هذا الإرث كان يمكن أن يشكل أساسًا لمبادرات جديدة تسهم في تخفيف حدة التوتر وبناء حلول واقعية لأزمات الأمن والاستقرار في الساحل.

غير أن احتضان شخصية مثيرة للجدل مثل الإمام ديكو، وهو الذي يعلن صراحة سعيه لإسقاط السلطة والتحالف مع جماعات مسلحة، قد يضع الجزائر في موقف محرج دوليًا، ويقوض صورتها كوسيط محايد. كما أن هذا المسار قد يُدخلها، ولو بشكل غير مباشر، في خندق واحد مع قوى تتهمها باماكو أصلًا بزعزعة استقرار البلاد، وعلى رأسها فرنسا.

وتزداد هذه الحساسية مع الدور الذي يلعبه المتحدث باسم الائتلاف، الخبير الاقتصادي إتيان فاكابا سيسوكو، المقيم في فرنسا، والذي استقبلته السلطات الفرنسية ومنحته منصة إعلامية واسعة، ما يعزز في نظر الماليين فكرة وجود شبكة دعم خارجية تستهدف تقويض النظام القائم.

تحذير من الانزلاق غير المحسوب

إن عودة الإمام محمود ديكو إلى المشهد السياسي من الجزائر، ودعوته الصريحة إلى “الوحدة ضد السلطة”، لا يمكن فصلها عن السياق الإقليمي المعقد الذي تعيشه منطقة الساحل، حيث تختلط الصراعات السياسية بالتنظيمات المسلحة والاصطفافات الدولية. وفي هذا المناخ، فإن أي خطوة غير محسوبة قد تُفسَّر على أنها تدخل في الشؤون الداخلية لدولة ذات سيادة.

من هذا المنطلق، تبدو الجزائر مدعوة اليوم إلى إعادة تقييم كلفة هذا الاحتضان السياسي، وموازنة ذلك مع مصالحها الاستراتيجية وصورتها الدولية. فبدل الانجرار إلى صراعات بالوكالة أو رهانات على شخصيات خلافية، قد يكون الأجدى إحياء دورها التاريخي كوسيط نزيه، يطرح حلولًا واقعية قائمة على الحوار بين الدول، لا على دعم معارضات عابرة للحدود قد تزيد المشهد تعقيدًا بدل تفكيكه.

في النهاية، يبقى تحذير الزمن السياسي واضحًا: ما يُكسب نفوذًا ظرفيًا قد يتحول سريعًا إلى عبء استراتيجي، خاصة في منطقة لا تحتمل مزيدًا من الاشتعال.