إعادة تشكيل الوعي الفلسطيني و بعثه من خلال رواية ”  حنظلة  ” للروائية الأردنية ،  بديعة النعيمي . 

إعادة تشكيل الوعي الفلسطيني و بعثه من خلال رواية ”  حنظلة  ” للروائية الأردنية ،  بديعة النعيمي .

بقلم : الأستاذ علي فضيل العربي – الجزائر –

 

نص آخر من نصوص أدب المقاومة . نص  سردي مدهش  و موقظ للضمائر الحرّة  ،  مذكّر للقلوب الغافلة  . نص  من الحجم المتوسط ، و من منشورات دار فضاءات بالأردن الشقيق ، تلك هي رواية ” حنظلة ”  للروائية الأردنية ، ذات الروح المقدسية الفلسطينية ، بديعة النعيمي .

في عنوانها استلهام لروح الكاريكاتوريست الفلسطيني صاحب شخصيّة ” حنظلة ” ، الشهيد ” ناجي العلي ” ،  الذي اغتالته أيادي الموساد في مدينة لندن ذات يوم أسود  من سنة 1987 م .

تتوزع الرواية ، ذات 190 صفحة ،  على ثلاثة  أقسام ( فصول )  ، يضم كل  قسم ( فصل ) مجموعة من العناوين ، هي بمثابة عتبات و تغريدات متخمة بإيحاءات و رموز ذات أبعاد نفسيّة  ومخرجات اجتماعية و سياسيّة و تاريخيّة و فلسفية .

عنوان الرواية ( حنظلة ) في حدّ ذاته ، يلخّص لنا مأساة جيل فلسطيني ولد في خضم المأساة الكبرى ، يوم تداعت الأمم الظالمة على الشعب الفلسطيني ، و انتزعت الحق من أصحابه ، و منحته  لمن لا يملك منه مقدار ذرة  . جيل ولد    بعد النكبة و النكسة و مؤتمرات الاستسلام في أوسلو و مدريد ، تحت عناوين مزيّفة   ،  خادعة  و صادمة ، مثل :  السلام مقابل الأرض ، حلّ الدولتين وووو  .

جيل ولد في مخيّمات النزوح و اللجوء ، و فُرضت عليه فصول من التشرّد بين مطارات العالم و موانيء  بحاره و أنهاره و محيطاته و مدنه  في الشرق و الغرب .  و كان الرسام المبدع و الشهيد  ناجي العلي  أنموذجا لتلك المطاردات التي لاحقت الوطنيين الفلسطينيين في كل بقاع العالم ، من أجل إسكات أصواتهم الحرّة ، و إطفاء شعلة المقاومة ، و إخماد حلم العودة إلى الوطن المغتصب . و لم تكن تلك المطاردات المستمرّة ، من لبنان إلى الكويت إلى لندن ، سوى محاولة آثمة لوأد القضيّة الفلسطينية ، و تمهيدا لما هو آت من مخرجات الخيانات السريّة  التي دبّرتها بليل  أيد فلسطينيّة و شقيقة و صديقة ، و ما صفقة القرن المزعومة أو كما سمّاها البعض  ( صفعة القرن ) ، إلاّ واحدة من الشواهد على الخنوع و الاستسلام و الانبطاح و بيع القضيّة في سوقي أثينا و روما . و الأدهى و الأمرّ ، أنّ الذين وقّعوا على صكوك البيع لا يملكون من فلسطين شبرا واحدا  ، بل بعضهم لا يُحسن نطق اسم فلسطين .

*       *      *

ما يلفت انتباه القاريء المتمعّن لرواية ( حنظلة ) للروائية الرائعة و المقاومة ، بديعة النعيمي ،  هو جماليات السرد . فنحن أمام نص سرديّ ممتاز . فبالإضافة إلى فكرتها الوطنيّة ، المنتزعة و المستوحاة من راهن الشعب الفلسطيني و واقعه المرير في مخيّمات النزوح و اللجوء و المنافي و الاغتراب القسري ، فقد وظفت الروائية بديعة النعيمي عنصري التاريخ و الرمز ، و مزجت بين الواقع و المتخيّل ، و اعتمدت على تداخل عناصر الزمن ( الماضي و الحاضر و المستقبل ) . لتكون شاهدا على ديمومة القضيّة ، و رسوخها  و سيرورتها في الذاكرة الفلسطينيّة ّ ، و الضمير الفلسطيني الحرّ ،  فردياّ و جماعيا .

و لعنوان  الرواية  ( حنظلة ) أبعاده نفسيّة و تاريخيّة و اجتماعيّة . فشخصيّة حنظلة ، التي ابتدعها الرسام الفلسطيني الفذ ، ناجي العلي ، تمثّل و تجسّد حلم التمسّك  بالعودة إلى الوطن المغتصَب    ، دون الاكتراث لعنصر كثافة  الزمن و تمدّده ،  لأن الحقّ لا يضيع  مادم وراءه طالب . و لأنّ الوطن ، في عرف الأحرار و الوطنيين الأوفياء ، ليس رقعة أرض يأوي إليها المرء متى شاء ، و يهجرها متى شاء . بل هو في حقيقته مثل الروح في علاقتها  بالجسد .

” سار هائما على وجهه لا يعلم وجهته في مدينة لا تنام ” ص 9 . ” فالأرصفة لا تتشابه كما المدن تماما ” ص 9 . ” إلاّ أن شعورا بالوحدة انتابه و كأنّ العالم قد  أقفر من حوله إلاّ من غضبه ، حنقه ، من رغبته في الطيران نحو أبيه ليمسكه من كتفيه و يهزّه بقوّة .. لم أجبرتني على السفر ؟ لم جعلت منّي لاجئا في مدينة عاهرة ؟  ” ص 9 . ” و هل غدا الوطن كومة تراب و صخور ؟ إنّك مخطيء ، و لن تدرك يوما بأن الوطن هو الحبل السرّي الذي يصلنا بالحياة ” ص 13 .

و بين الأسود و السمين و الإغراء الرخيص و عذاب الضمير و الأسئلة المبتورة الأجوبة  ،  يجد البطل اللاجيء   نفسه ضائعا في عالم لا يشبهه ، و لا يشفي غليله من الشعور بالاغتراب و الحرمان و الوحدة و الضياع و وطأة الذكريات الأليمة  ” لأن الأرض ليست أرضه ” ص 14  .  ” تذكّر بأنّ الأرض هناك أيضا لم تعد أرضه . تذكّر بأنه بلا أرض بلا وطن و أنّه مجرد لاجيء أينما ذهب ” ص 15 . ” سامحك الله يا أبي  ، لم أجبرتني على رحلة الاغتراب ؟ ” ص 15 .
هو الذي كان يبحث عن وطن آخر يحتضنه ، عن مدينة أخرى تعوضه عن فقدان مدينة صباه و طفولته و شبابه ، لعلها تمسح عن عينيه عبرات الاغتراب المر ، لكن هيهات . فالوطن مثل الأم التي لا تتكرّر ، و لا تتعدّد و لا يمكن أن تُعوّض ، إذا غابت  فترة أو  فُقدت  إلى الأبد .

لقد شيّدت الروائية بديعة النعيمي معمار روايتها ” حنظلة ” من خلال استحضار  شخصيتين ، إحداهما حقيقية ، و الأخرى فنيّة  ، سليلة  المخيال ،  و  هما : شخصية  المناضل و الشهيد المغتال و الرسّام الفلسطيني المبدع ، ناجي العلي ، و شخصية رسوماته الكاريكاتورية الطفل   ” حنظلة ” . و كان هدف الروائيّة – من وراء هذا الاستحضار- إعادة نقد و نقض الواقع  السياسي الفلسطيني ، الذي صدّق حلم بل كابوس الدولتين ، تحت مسمى ” الأرض مقابل السلام ” . و هو – لعمري –  مسمّى  زائف و مخادع ، غرضه القضاء على المفاهيم الثوريّة و على مخزون  الذاكرة الفلسطينيّة و مخرجاتها ، مثل : حق العودة ، المقاومة ، استرجاع الأرض المسلوبة ، عدم الاعتراف بالكيان الصهيوني ككيان شرعيّ على أرض فلسطين ، مقاومة سياسة التطبيع . كما قصدت الروائية بديعة النعيمي ، أيضا ، من وراء هذا الاستحضار ، إعادة صياغة مفاهيم الصراع  الحقيقي ،  القائم بين المعتدي و المعتدى عليه ، بين الجاني و الضحية ، بين صاحب الأرض و المغتصب الوافد من آفاق التيه . فقد تطوّر هذا الصراع و انتقل من مربّع اغتصاب الأرض  إلى مربّع  القضاء على الهويّة  الفلسطينيّة و إلغاء تراثها المادي و الروحي و عمقها التاريخي .

و أخيرا ،  يمكن اعتبار رواية ” حنظلة ” للروائية الأردنية – العاشقة لفلسطين حتى النخاع – لبنة مشرقة ، مضافة إلى جدار المقاومة و الصمود و التحدّي و التصدّي و اليقظة . و هي رواية جديرة بالقراءة و الدراسة النقديّة .