جنين –
مرة، اثنتان، وهذه الثالثة، والثالثة “ثابتة” ليس في المثل كما قيل، وإنما في الواقع رسخها الأسير الفلسطيني محمود العارضة واستطاع أن ينتزع حريته رغما عن الاحتلال الإسرائيلي بعد أكثر من ربع قرن من الاعتقال.
ومحمود العارضة (46 عاما) العقل المدبر والأسير العنيد الذي لم يكلّ يوما، ولم يسقط فكرة التحرر من أجندته، وحاول مرة تلو أخرى حتى نجح، فخرج من باطن الأرض، وتحت جنح الظلام كاسرا، و5 من رفاقه الأسرى، عتمة سجن جلبوع الإسرائيلي، وقيد السجَّان “الذي ما أحبه أو استجداه يوما”.
المثقف العنيد
ولعلَّ صفات القائد لازمت محمود في معتقله ودفعته للتحرر، فقاد “كأمير لأسرى الجهاد الإسلامي” الفرار مرتين عام 2014 من سجن شطة المحاذي لجلبوع، حيث نفَّذ عمليته الأخيرة، وكان الاحتلال في كل مرة يمعن بعقابه وعزله عن الأسرى.
ورغم ذلك لم يتسلل اليأس لنفس الأسير العارضة، حتى أنه خاض معركة التحرر الأخيرة رفقة أفراد من مجموعته في المحاولتين السابقتين، بعد أن رسم مسار حريته بنفسه، وعلى مدى سنوات ورغم تضييقات الاحتلال.
ويقول الشيخ خضر عدنان، القيادي في حركة الجهاد الإسلامي وأبرز رفاق محمود، إن الاحتلال كان يعاقبه وأبناء فصيله بالعزل لأشهر طويلة، لا سيما بعد محاولاتهم الهرب، ومنعهم العيش بسجون مبنية من طابق واحد، وحرمهم أدوات المطبخ، كي لا يستخدموها بالحفر.
وبحنكته، والكلام للشيخ عدنان، عاد العارضة لسجن جلبوع، وعزل في زنزانة مع رفاق دربه، لينفذ عمليته على نار هادئة، وينجح فيها منتصرا على الاحتلال وكل أدواته التقنية والمخابراتية.
ومحمود رياضي نشيط ومثقف من الدرجة الأولى، فباعتقاله الأول نال شهادة الثانوية، ثم أكمل دراسته العليا داخل سجنه، وعرف بنهمه للقراءة وتثقيف نفسه، فحفظ القرآن الكريم وكتب عن الشيخ الغزالي وتأثير فكره وعلمه على حركة الجهاد الإسلامي، وألَّف كتابا عن فقه الجهاد.
ومثل خفة ظله، عرف بنشاطه الرياضي، وبأنه شعلة متقدة في التعامل مع الأسرى وخدمتهم، وعلاقته المميزة بالأسرى الأشبال رغم فارق السن.
اقتفاء القادة
وتجلى إبداع الأسير العارضة باقتفائه أثر شيخه وقائده في السجن صالح طحاينة، الذي تحرر من السجن مرتين مستبدلا اسمه بأسماء أسرى آخرين، ثم شكل بعد اعتقاله خليتين للجهاد الإسلامي، أحدهما قادها محمود وأثخنت في الاحتلال وجنوده.
والأسير العارضة ليس “تلميذا نجيبا” فحسب، يقول الشيخ خضر، بل هو معلم ماهر وثق بأسرى من غير فصيله، في إشارة إلى زكريا الزبيدي الذي فرَّ معه.
ولم تمنعه الحواجز التنظيمية من تلك الثقة والسعي للحرية، ليرد على الاحتلال الذي يحاول أن يشكك بترابط الفلسطينيين ووحدتهم، “ولهذا كانت مصلحة السجون تكرهه، ولم يكن هو يحبها أو يهادنها”.
فرح وخوف.. بعيون الأم
وحيث يتحدر الأسير العارضة من قرية عرابة قرب مدينة جنين شمال الضفة الغربية، تعيش والدته فتحية (78 عاما) وعائلته حالة من الفرح الممزوج بالخوف والقلق عليه، ولا تملك سوى الدعاء بأن يحفظ الله “السبع” كما تحب أن تصفه منذ صغره، وتقول الأم المكلومة إن ما فعله نجلها ورفاقه يرفع الرأس رغم الاحتلال.
وآخر مرة رأت الحاجة فتحية نجلها محمود في سجنه كانت قبل 4 سنوات، ويقول شقيقه محمد للجزيرة نت إنهم وعقابا لمحمود كانوا يحرمون من الزيارة بين الحين والآخر.
وتحولت عرابة لثكنة عسكرية لجيش الاحتلال حيث شهدت اقتحامات لمنازل أسرى “نفق الحرية” واعتقل شقيقي محمود؛ رداد وهو أسير محرر أمضى 20 عاما في سجون الاحتلال وشداد وأمضى 7 أعوام.
حالة الترقب التي تعيشها عائلة الأسير العارضة تخفي بداخلهم آمال كبيرة تكللها دعوات خالصة من القلوب بأن يحميه “ويعمي عنه عيون اليهود”، تختم والدته التي اختلطت بعينها دموع الفرح والحزن معا.