الشاعر سرجون كرم: الشعر تعبير بالكلمات وليس كلامًا ومجرّد وصف مشاعر
القرآن الكريم أجمل ما قرأت وأثر في بطريقة إيجابية وأوظّفه في كتاباتي
كنت أكتب أبحاثي على ضوء الشمعة ومكتبة والدي كوّنت لي شخصيتي
عندما يكتب الشاعر قصيدته لا يفكّر بعنوانها وأعرف أنّ هناك إرادة أكبر أوصلتني
لا قاسمًا مشتركًا بين الثقافتين العربية والألمانية
الانباط- حوار د٠لطيفة القاضي
الدكتور والشاعر اللبناني سرجون فايز كرم من مواليد 1970 في بيروت، تلقى علومه الأولى في مدرسة القديس جاورجيوس ,تابع الدراسة الثانوية في مدرسة خليل سالم٠حصل على ليسانس في اللغة العربية و آدابها والماجستير اختصاص ألسنيّة من جامعة البلمند، كما حصل على دبلوم في اللغة الألمانية وآدابها من جامعة هايدلبرغ ألمانيا ٠نال الدكتوراة في الأدب العربيّ بعنوان (الرمز المسيحي في الشعر العربيّ الحديث ) من جامعة هايدلبرغ ثم أطروحة الأستاذية في جامعة بون ألمانيا ٠
الدكتور سرجون أستاذ في اللغة العربية وآدابها و الترجمة في معهد الدراسات الشرقيّة والآسيوية التابع لكلية الفلسفة بجامعة بون ألمانيا وهو ناشر ومدير مشروع الترجمة للشعر العربي الحديث إلى الألمانية وله أربعة دواوين شعرية ٠ وهو عضو في الإتحاد الألماني (كلمة) لحماية الحقوق الفكرية والإتحاد المتخصص للغة العربية في بامبرغ ألمانيا، واتحاد الكتاب اللبنانيين٠
نشأ وتربى في أحضان لبنان بلد الثقافة والفنون والإعلام امتزجت مفردات شعره بحلاوة سمارها وطيبها فأحب الشعر ومن البيئة التي تربى فيها أكتسب حب العربية٠
يقول سرجون فايز كرم.. ولدت قبل الحرب الأهليّة اللبنانيّة بخمس سنوات في منطقة الأشرفيّة في بيروت، التي تعرّض أهلي للتهجير منها لاختلاف توجّه المنطقة السياسيّ مع مبادئ والدي. انتقلنا إلى شمال لبنان مسقط رأس العائلة. والدي كان صحافيّا ووالدتي مدرّسة، بفعل التهجير خسرا وظيفتهما. أنهيت الدراسة الابتدائية والمتوسّطة والثانويّة في مدرسة القرية ومدرسة القرية المجاورة لأنتقل بعدها إلى جامعة البلمند الحديثة العهد وكنت ضمن الفوج الأوّل من طلابها. في البلمند أنهيت الدبلوم في العربيّة وآدابها وكذلك الماجستير. بعد سبع سنوات في الجامعة عملت مدرّسًا للغة العربيّة للطلاب الأجانب والناطقين بها في معهد القديس يوحنا الدمشقي توجهت إلى ألمانيا لإنهاء أطروحة الدكتوراه بمنحة دراسيّة ألمانيّة، كنت خلالها أعمل أستاذا زائرًا في كليّة ماستريخت العليا في قسم الترجمة والاتصالات الدوليّة ومنذ عام 2005 أعمل في قسم الدراسات الشرقيّة والآسيويّة الاستشراقي التابع لجامعة بون أستاذًا للغة العربيّة والأدب العربيّ والترجمة.
ويضيف، تاريخي مثل تاريخ أيّ طفل وشاب لبنانيّ ولد في مرحلة الحرب وعايش الحرب الأهليّة بكلّ لؤمها وأهوالها من تهجير وملاحقة وانسداد الآفاق. وكأي شاب عاصر هذه المرحلة كان التحصيل العلميّ الباب الوحيد لتغيير شيء ما في الحياة الشخصيّة. لا أتذكّر الأيام التي درست فيها تحت المصباح الكهربائيّ ولكنّني أتذكّر تمامًا الليالي التي كنت أدرس فيها وأكتب أبحاثي الجامعيّة على ضوء الشمعة، وما زلت محتفظًا بهذا الشمعدان الذي تراكم عبر سنوات الدراسة حتى الآن.
وفيما اذا ما كان للمبدع الحق من إعادة تخيل الواقع المرفوض و هدمه و ترميم بناء عالم جديد على مستوى النص الأدبي؟ يقول، هذا السؤال يحيلنا إلى أسئلة أخرى قبل الجواب عنها: لماذا نكتب الشعر؟ لماذا يقبل الناس على قراءة الشعر ويهتمّون به؟ سأختار الجواب انطلاقًا من العقليّة الألمانيّة التي أصبحت جزءا منّي وتكوّنت عبر تكويني الأكاديميّ وحياتي هنا: الشعر هو تعبير بالكلمات وليس كلامًا، يطلق طاقة شخصيّة تريد أن تحيا وتستمرّ في الحياة. الشعر ليس مجرّد وصف مشاعر وعوالم مغلقة بل هو الفنّ الأكثر شخصانيّة في طرح مسألة الوجود والإنسان.
وحول اختياره موضوع الدكتوراه بعنوان (الرمز المسيحيّ في الشعر العربيّ الحديث)؟ اوضح د. سرجون، أوّلا اختيار الموضوع لا علاقة له بالانتماء الدينيّ بل مرتبط جوهريّا بحركة الحداثة الشعريّة التي نشأت في خمسينيات القرن الماضي. صحيح أنّه أطلق عليها الحركة التموزيّة، بمعنى أنّ رموزها الشعريّة الحديثة كانت ترتكز على فكرة الخصب والموت والقيامة، إلا أنّ الرمز الطاغي لدى هذه الحركة كان رمز المسيح. طبعًا هذا الرمز لم يكن نابعًا من خلفيّة دينيّة لدى الشعراء، وبينهم مسلمون مثل بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وأدونيس ونذير العظمة وآخرين، بل كان الرمز المسيحي امتدادًا نفسيا وثقافيّا وحضاريّا لديهم. في خمسينيات القرن الماضي حصل تحوّل كبير في بنية القصيدة العربيّة تمّ التمهيد له منذ بداية عصر النهضة العربيّة في أواخر القرن التاسع عشر. في رأيي كانت القصيدة العربيّة الحديثة في زاوية ما ردّا جريئًا من العلمانيّين واليساريّين على ما انتهى إليه فكر النهضة. وهكذا وجد الشاعر الحديث نفسه أمام مسألة التعبير الصادق عن نفسه برموز تشكّل معادلاً موضوعيّا لحالته كإنسان مهمّش وملاحق وممزّق في إقليمه وإنسان في المحيط الإنسانيّ الشامل، وكذلك احتاج إلى رموز جديدة يتحدّى بها السلطة السياسيّة العربيّة ويحطّمها. فكانت رموز الموت والقيامة التي تعتبر المسيحيّة امتدادًا تاريخيّا وثقافيّا لها. جلّ الدراسات كانت تركّز على أسطورة تموز أو أدونيس وعشتار، فقمت بالتركيز على الرموز المسيحيّة كمعادل موضوعيّ للشاعر العربيّ الحديث وكانت النتيجة أنها كانت متفوّقة في دلالاتها وعمقها على الرموز الأخرى.
وبالنسبة لمشروعه ترجمة الشعر العربيّ الحديث إلى اللغة الألمانيّة في ألمانيا، قال، هذا المشروع بدأ بشكل عفويّ. عندما انتهيت من الدكتوراه في ألمانيا عدت إلى لبنان وحاولت الحصول على وظيفة جامعيّة هناك، فلم أفلح. ففي لبنان لا يمكن الحصول على هكذا وظائف من دون علاقات شخصيّة وسياسيّة واجتماعيّة. في الوقت الضائع في لبنان قمت بالتعاون مع الدكتور توفيق دواني بترجمة “تراجيديا المنصور” للأديب الألمانيّ هاينريش هاينه. وصدرت هذه الترجمة عن دار السائح في طرابلس لبنان. بعد عودتي إلى أوروبا وبداية عملي في جامعة بون وددت أن أقدّم كلّ مساعدة ممكنة لشعراء العالم العربيّ وتكوين خليّة شعريّة تطلّ بأعمالها على العالم الناطق بالألمانيّة كون معظم الترجمات هنا تركّز على نقل الأعمال الألمانيّة إلى العربيّة. وعمليّة ترجمة الأعمال الأدبيّة العربيّة إلى الألمانيّة لا يمكن أن تحصل على أيّ دعم مادّي من المؤسسات الألمانيّة إلا في ما ندر. فبدأت هذا المشروع وما زلت على حسابي الشخصي، ويقف فيه إلى جانبي الدكتور هاينه وهو مستشرق ألمانيّ بالإضافة إلى المترجمة كورنيليا تسيرات التي تخرّجت من قسم الدراسات الشرقيّة والآسيويّة في جامعة بون بدرجة الماستر في علوم العربيّة والترجمة. حتى الآن ترجمنا العديد من الشعراء والانطولوجيات: نعيم تلحوق – هنيبعل كرم – الدكتور شربل داغر – حسن م. عبدالله – الدكتور أديب صعب –مكرم غصوب – زاهر العريضي، بالإضافة إلى أنطولوجيّات: بورتريه للموت – قصائد تحت القصف (للشباب السوريين) – وطن للتهجئة (للشباب اللبنانييّن) – العالم في عيوننا (أنطولوجيا نسائية لبنانيّة). وبالنسبة لأعمالي كشاعر فقد صدر لي ضمن هذا المشروع ديوانان فقط: هذا أنا وسندس وسكيّن في حديقة الخليفة.
واشار الى انه تخصص اللغة العربية، لان الجوّ الذي ربيت فيه دفعني طوعًا إلى عالم العربيّة. فوالدي صحافيّ وخطيب وجدّي لوالدتي شاعرٌ وأديب. بعد تهجيرنا من بيروت استطاع والدي أن ينقذ مكتبته ويجلبها إلى القرية. ورافقتني هذه المكتبة التي كانت تضمّ الكتب التراثية من تفاسير القرآن، ودواوين المتنبي وأبي فراس وأبي نواس وأبي فراس الحمداني، إلى أعداد مجلّة “شعر” كاملة ودواوين شعراء الحداثة. في مرحلة المدرسة والثانويّة لم أكن أفهم كثيرا مضمونها ولكن عندما دخلت الجامعة وجدت أنّها كوّنت لي شخصيتي وتوجّهي.
وردا على سؤال هل دَمُ الشعراء مُشترك رغم اختلاف القارات وتنوع الأراضي الشعرية .. قال ، هذه القناعة بأنّ البشر متشاركون في الإنسانيّة وكلّ ما يقومون به يجب أن يصبّ في مصلحة الإنسانيّة، حرية وإخاء ومساواة هي السبيل الوحيد للسير بالإنسان نحو الأفضل. وكذلك الأمر لدى الشعراء، فعلى الرغم أنهم يعيشون في أقاليمهم التي تطبع شخصيّتهم إلا أنّهم عامل فاعل ضمن الإطار الإنسانيّ، فهم في إقليميّتهم عالميّون مع شعراء القارات الأخرى ويتحرّكون ضمن هذه المبادئ النبيلة في عمليّة بناء الفكر الإنسانيّ.
واوضح، ان عمليّة اختيار عناوين الدواوين والقصائد من أصعب المواقف التي تواجه الشاعر. أحيانًا تخرج القصيدة وعنوانها يرافقها ويجب تعديله قليلا. ولكن عندما يكتب الشاعر قصيدته لا يفكّر في عنوانها، لأنّ النصّ هو الأهمّ لديه. ولكن حين يحين موعد الإصدار يعيش الشاعر محنة اختيار العناوين، وهنا يكتشف أن أهميّة اختيار العنوان من أهميّة كتابة النصّ.
وحول الصعوبات التي واجهته في حياته المهنية و تغلب عليها، قال د. سرجون، لا أعرف ما إذا أنا من تغلّب عليها، كل شيء جرى وكأنّه مكتوب مسبقًا. فالحياة التي عشتها والبيئة التي خرجت منها لا يمكن عبر الحساب المنطقي أن تنتهي إلى ما أنا عليه الآن. لست من بيت ميسور أو له علاقات “الواسطة” للوصول إلى ما يريد. في أيام الدراسة الثانويّة والجامعيّة وحتى أثناء عملي في لبنان كنت أمشي إلى المدرسة والجامعة يوميّا مسافة عشرة كيلومترات ذهابًا وإيابًا، البعض يقول أني مثابر ومجتهد لكن أعرف في داخلي أنّ هناك إرادة أكبر أوصلتني.
اما الموقف الشعري الذي لن ينساه أبداً، قال، كان في تسعينيات القرن الماضي في جلسة شعرية ونقدية شاركت فيه شاعرة شابّة وألقت قصيدة على الوزن الخليلي. وعندما انتهت سألها أحد النقّاد أن تعيد قراءة أحد أبيات قصيدتها ففعلت. عندها قال لها: الكلمة الواردة في البيت لا تُقرأ هكذا والقصيدة لستِ أنتِ من كتبها. وبالفعل كان محقّا. هذا هو النقد الذي يجعلك تنتبهين إلى مصداقيّة ما تكتبين.
وعن أجمل كتاب قرأه وأثر فيه بطريقة إيجابية، قال د. سرجون، القرآن الكريم. حتّى هذه اللحظة لم أتكلّم أبدًا عن الكتاب أو الكتب التي قرأتها وأثّرت بي بطريقة إيجابيّة لأنّي أتهيّب قليلا ردّة الفعل. قرأت كتبًا كثيرة في حياتي ولي تجربة شخصيّة روحيّة ونفسيّة. البشر متشابهون جدّا في معاناتهم واهتماماتهم الحياتيّة وبعض طرق تفكيرهم وحتّى في شذوذ أفكارهم التي يخفونها أو يظهرونها. لذلك لا أجد بين هذه الكتب ما يؤثّر بي أو ما يجعلني اعتباره مثلا أعلى. الكتاب الذي قرأته وأنا في سنّ الرابعة عشرة من عمري ومتعلّق به حتى الآن هو القرآن الكريم، سواء من ناحية اللغة والصور والتعابير والعوالم الكامنة خلف الآيات. المثال الأعلى لا يمكن إدراكه والبشريّ يمكن إدراكه مع الظروف بكلّ سهولة. من يقرأ قصائدي يعرف إلى أيّ مدى يلعب هذا دورًا محوريّا في شعريّ وكيف أوظّفه في كتاباتي ككاتب شعر في عصر حداثة النصّ الشعريّ.
واضاف، إذا كانت الفلسفة هنا تعني وجهة النظر حول الحياة والإنسانيّة والكون فهذا أمر طبيعيّ أن تتسرّب إلى النصّ الشعريّ. الشاعر يكتب شعره ويلتقي مع الفيلسوف في رهافة ويختلف عنه في الوصف. وإن التقى الفكر الفلسفي والشعر في شخص فنحن أمام ظاهرة فريدة. ولنا في أبي العلاء المعري وفريدريش نيتشه وفريدريش هيبيل وغيرهم مثالا على ذلك.
واوضح، لا أعرف ما إذا كان هناك نقد جادّ في العالم العربي في وقتنا الراهن، حتّى الآن لم أقرأ إلا نقدًا يمدح المادة التي يدرسها. نعم، لقد بدأت الرواية في العالم تحتلّ اهتمام القرّاء في أقطار عديدة من العالم. الرواية في العالم العربيّ وليدة عصر النهضة العربيّة ولا أعتقد أنّها ستستمرّ في احتلال الساحة الأدبيّة لوقت طويل. هناك فترة مخاض في العالم أجمع ولا يمكن لأحد أن يتنبّأ كيف سيكون الإنسان فيها. العرب كانوا خلال قرن ونيّف من الزمن مقلّدين غير ماهرين. سيكون هناك حتما فنّ أدبي جديد مختلف عن الرواية والشعر اللذين نعرفهما.
واشار الى انه المشهد الثقافي في لبنان لا يختلف في الوقت الحالي عن غيره في العالم العربي. لقد كانت بيروت بجوّ الحريّة فيها دائما ملتقى الشعراء والأدباء حتى غير اللبنانيّين. قبل عشر سنوات وحتى بداية الانهيار الاقتصاديّ كان المشهد الثقافي اللبنانيّ ناشطًا ولكنّه كان ينتظر عملية التقييم والفرز، إذ من غير المعقول اعتبار كلّ هذا الكمّ الهائل من المكتوب تحت اسم الشعر أن يكون جميعه في النهاية المادّة الشعريّة. المشهد اللبناني له نكهته الخاصّة رغم تشابه أوضاعه الاقتصادية والسياسيّة مع بلدان عربيّة أخرى. وأعتقد أنّ الأزمة التي تعصف حاليا بلبنان هي التي ستفرز المجلّين في هذا المشهد عندما يتمّ التأقلم مع الأوضاع هناك.
وبالنسبة للعامل المشترك في اللغتين العربية والألمانية ، قال، الكلام عن القاسم المشترك بين الثقافتين الألمانيّة والعربيّة من الناحية الأدبيّة يجعلنا نتذكّر الشاعر الألمانيّ غوته في ديوانه الغربي الشرقي، وكذلك الشاعر فريدريش روكرت في ديوانه ورود شرقيّة والفيلسوف الألماني هيردر الذي كان يعتبر أن قمّة الرومنسيّة هي في الشرق. لقد كان الشرق والثقافة العربيّة في القرن التاسع عشر عالمًا للمتخيَّل وللسحر وللرومنسيّة والشعر الجميل لدى الشعراء والفلاسفة الألمان. وليس لدى العالم العربيّ الأدبي هكذا صورة عن الثقافة الألمانيّة. أمّا إذا أردنا أن نتكلّم عن وقتنا الراهن، بعد أكثر من عشرين عامًا في ألمانيا يمكنني أن أقول أن لا قاسمًا مشتركًا بين الثقافتين. الألمان عقلانيّون ينشدون الفكرة وعمقها والعرب رومانسيّون. الألمان يخطّطون لحياتهم بعد خمس وعشر سنوات والعربيّ يعيش اللحظة. الألمان يقدّسون النظام في حياتهم والعرب عكس ذلك.