كتب الكاتب الصحافي أحمد أبو خليل في منشور له على موقع “فيس بوك” عن حالة الفرح التي تعيشها مدينة الرمثا شمالي الاردن بعد اقتراب نادي مدينتهم ( لحسم الدوري الاردني لكرة القدم )
وتاليا نص المنشور :
لست متابعا للشأن الرياضي لا في الرمثا ولا في غيرها، لكنني أكتب هنا بمناسبة حدث رياضي..
الرمثا بحاجة شديدة لمناسبة فرح عامة وتنتظرها بشوق. هذا شيء ملموس. لقد أُرهِقت المدينة في العقدين الأخيرين وخاصة في العقد الأخير. وليس الإرهاق والغضب والزعل من صفاتها المعتادة. أذكر أني حاولت قبل سنوات الشروع في كتاب بعنوان :”الرمثا.. سيرة مدينة ضاحكة”. وللأسف لم أواصل المهمة.
الرمثا بالفعل مدينة ضاحكة متهكمة، وعندها صنف ممتاز من الضحك والتهكم. لقد وفرت لنا نحن الذين خرجنا منها، انطباعا مسبقا عند الآخرين. وهو انطباع مفيد لنا ونحبه ونحبها لأجله. فلعدد من المدن الأردنية (وغير الأردنية بالتأكيد) شخصية واضحة تنعكس على أبنائها، والرمثا من بين هذه المدن.
اسمحوا الاشارة إلى أنني لست شاعرا أو كاتب خواطر فنية، فأنا قد أنتمي -إذا وافقتم- إلى عالم البحث والدراسة. وما أكتبه يستند إلى ذلك.
الضحك في الرمثا، ليس نكتا على طريقة “في مرة واحد…”. إن ضحك أهل الرمثا صناعة محلية بالكامل. لقد وفر موقع الرمثا وجغرافيتها وخصائص سكانها، البنية التحتية لهذا. والأمر لا يقتصر على كونها مدينة حدودية، فهذا أمر حديث، وعمره قرن فقط، بينما تمتد حكايا الضحك في الرمثا إلى ابعد من ذلك. وقد تناقل الناس بعض ذلك شعرا وقصصا.
نتعامل مع مدينتا الرمثا ككائن حي، فنحن قد نحبها وقد نستحي منها وقد نغضب او نعتب عليها أحيانا. بالنسبة لي أذكر اني وعدتها ذات يوم وعدا خاصا، في لحظة حساسة في حياتي: فقبل 40 عاما بالضبط، وكنا نشتغل بالعمل السياسي، حصل أول اعتقال لي، وعندما كانت سيارة الأمن تصحبني من الرمثا إلى اربد، وعند خروجنا من طرف المدينة الجنوبي، نظرت إلى الخلف نحو الرمثا، وأقسمت (تمتمة ولكني أسمعتها لنفسي) بأني “إذا لم أعد إليك كما خرجت فلن أعود”. كنت حينها أجمع شهودا على نفسي بأن التخاذل قرار والصمود قرار أيضا. وقد عدت للرمثا بعد بررت بقسمي. وكنت سأستحي منها لو حصل غير ذلك. (أعذروني على هذا الاستطراد الشخصي في حضرة الرمثا).
تبدو الرمثا أحيانا قاسية، لكنها قسوة تتوزع بعدالة، وهي عادة تستهدف من يتعالى عليها وخاصة إذا كان من أبنائها بالذات. وقد وفر لها الاستقلال النسبي لحياتها الاقتصادية عن دورة الاقتصاد الوطني، فرصة لأن تبدو مدينة “محشومة”. أحد قوانينها الأساسية: “ليس هناك كبير”. وعلى الجميع أن يخضع لشروط ثقافة المدينة.
بالنسبة لي اكتسبت وحافظت على تقليد رمثاوي ظريف: يلتقي الرمثاوي بشخص لأول مرة، فيسارع إلى استحضار شبيه أو مثيل له، قد يكون هذا المثيل شخصا أو شيئا، وقد يكون الشخص محترما والشيء جميلا، لكن العملية بحد ذاتها كفيلة بإزاحة الغربة والتكلف. وتوفر اللهجة المحلية الغنية جدا والمترافقة مع لهجة موازية في لغة جسد (لهجة جسد) لا تقل غنى، فرصة سهلة لذلك. قطاع الألقاب وصناعتها ونحتها كان نشيطا، في الرمثا لا نقول لقب، بل “لِبِق” ونجمعها “لْبُوق”، وهناك متخصصون في ذلك، بدأوا بأنفسهم ومحيطهم، لكي تكون المسألة خفة ظل خالصة.
الاختصارات اللغوية الرمثاوية ظاهرة بحد ذاتها: (بعضها على شكل كلمات مثل: فُكّك، دَشْرَك، تشُبّك منه.. وبعضها على شكل أصوات أو حركات في الفم والفك لها معان متعارف عليها)، وفي الرمثا مفردة يكررها الناس للفت الانتباه عند حضور غريب أو عند الاقتراب من موضوع حساس وهي كلمة: “ميّاس”، ونشترك في ذلك مع اهالي معان الذي يستخدمون كلمة “داوود”.
في الرمثا نلفظ الاسم “رُمثا” (بضم الراء) كما نقول رمثاوي ونجمعها “رماثنة”. ونخوتهم الرسمية “عيال الصويت”، ولكنهم يوفرون هذا الاسم للمناسبات الوقورة، بينما في الحالات الاعتيادية اليومية يستخدمون داخليا مفردة “دِرْهَبّعْ”، وهي كلمة تكتسب معنها فقط من خلال التقاء حروفها الغريبة معا فتعطي حماسا يتفاعل معه الرمثاوي. في بعض الحالات يقولون: “درهبع والعشا خبيزة”، في كناية عن عدم الاكتراث للمخاطر المتوقعة.
يبدو أني قد أطيل عليكم، لا بد من التوقف، الآن على الأقل.
أتمنى الفوز الرياضي للرمثا، ليس من أجل الرياضة ذاتها، فآخر مباراة حضرتها للرمثا كانت مع فريق من السويداء السورية قبل نصف قرن، وأخرى مع فريق نادي الخليل، قبل نكبة حزيران!!! ولكني هذه المرة أتمنى فوز الرمثا من أجل الفرح الذي إن تحقق سيوزعه الرماثنة ويتقاسمونه مع الأردنيين على أوسع نطاق.