“حنظلة – الوثيقة الانسانية ، إدانة للواقع أم مساءلة للتاريخ..”
قراءة عقيل هاشم
“الحكاية منذ القِدَم ما هي إلا أشكالا من الإشارات والدلالات، لم يبتكرها الإنسان لتحقيق المتعة فحسب، بل لتحقيق الوعي بالأشياء، وإدراك الحكمة، وبلوغ المعنى والتماهي معه.. ”
“هذه أرضي وها أنا قد عدت أحمل في قلبي ثورة وفي يدي قنبلة..”
“رواية حنظلة للكاتبة بديعة النعيمي ،تتأسس على مسافة سردية تمتد لسنوات الاحتلال الغاصب لدولة فلسطين ، وتحاول الكاتبة إشراك المتلقي ضمن سياق سردي في قالب فني رائع ، يظهر براعة الكاتبة في تناولها لروايتها. وتقديمها في قالب سردي من خلال سارد عارف بكل شيء مرة و شخصية مشاركة مرة أخرى
عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمان صدرت رواية حنظلة” للكاتبة الأردنية بديعة النعيمي، التي تقع في 182 صفحة من القطع المتوسط،
حكاية استعادة المناضل الفلسطيني صاحب شخصيّة ” حنظلة ” ، الشهيد ” ناجي العلي ” ، الذي اغتالته أيادي الموساد في مدينة لندن ذات يوم أسود من سنة 1987 م .
الرواية جاءت وعلى ثلاثة فصول ، بالاضافة الى مجموعة من العناوين الفرعية ، هي محمولات فكرية تجسد سرديات يومية ل “حنظلة – و أربع نساء في سجن الرملة،”.وليكون عنواناتها عتبة القارئ التي من خلالها يلج الى عالم النص في الرواية، وذلك لما يحمله من رسالة تبثها المؤلفة الى القارئ بما تحتويه من حمولات دلالية.
في البداية يتبادر الى الذهن بعد قراءة الرواية أولاً الكتابة عن أدب السجون .وصور تعذيب المعتقلين. وقد رسمت الكاتبة عالماً سفلياً محضاً، مريباً وملعوناً يسوده العنف والاكراه.
وعنوان الرواية مجرد استعارة للجيل القادم ، وتبدأ رحلة المتاعب عبر هذه المسافة السردية في استفزازها للقارئ من الممارسات العنفية .
حاولت الكاتبة من خلالها ولوج مختلف العوالم بجرأة هامسة في أذن المتلقي بكل ما لديها من قدرة على الحكي، مازجة بين “المنفى” و”فلسطين” -الشرق-الغرب، ساعية إلى قراءة خطاب ما بعد الكولونيالية -” اختبار سردية الشّتات الفلسطيني عبر الاتكاء على نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي -” فقد شكل الاستعمار إشكالية لدى الشعوب المستعمرة مسببا ردة فعل لدى مثقفيها، مما دفعهم الى تشكيل صورة حقيقية عنه عبر تحليل الخطاب المنتج من قبل المستعمر , ومنها الأشد شراسة: النموذج الاستيطاني الكولونيالي الصّهيوني،: والذي مارسته الكاتبة كتقنية ضمنية داخل النص ك “وثيقة” .
والحلم بغد أفضل أحياناً أخرى من ان لانحلم ونعيش اجترار الحدث ، بواسطة شخصيات تعيش مفارقات ضدية بين الكائن والممكن. تنمو الشخصيات مع تطور الاحداث في السرد، فالفترة الزمنية للاحداث تبدا من زمن الاحتلال “67”، ولكن الشخصيات تتأثر بتجاربها الشخصية ما يؤدي الى تغيّر في وعيها وفلسفتها وأفكارها وفهمها للحياة، خاصة حين تصل الاحداث الى الذروة (او العقدة) التي من خلالها تتفجر البراكين الكامنة في اعماق وعي ووجدان الشخصيات لتزلزل قناعات كانت مترسخة عميقاً في أذهانها.تم نسجها في قالب سردي مبهر .
أحداث هذه الرواية تجعل من “فلسطين” فضاء لها، وتطرح مواضيع اجتماعية لها ارتباط بالمعيش اليومي، قضايا اجتماعية وسياسية من خلال”استحضار شخصية «حنظلة» الرمز الفني للفنان ناجي العلي، رسام الكاريكاتير ”
معتقل النساء، حكاية أربع نساء دخلن السجن بعد أن تعرضن للخيانة من حيث لم يحتسبن، ومنهن أمه «حياة».
و كان الرسام المبدع و الشهيد ناجي العلي أنموذجا لتلك المطاردات التي لاحقت الوطنيين الفلسطينيين في كل بقاع العالم ، من أجل إسكات أصواتهم الحرّة ، و إطفاء شعلة المقاومة ، و إخماد حلم العودة إلى الوطن المغتصب ..
أسلوب السرد هو الحكيْ غير المـُتكلّف، فالقارئ يشعر ان الكاتب يحكي له ويقص عليه حكايات ببساطة وعفوية وكأنه يـُسامره. أما الوصف فيتكثر منه المؤلفة سواءً كان وصفاً للشخصيات او الأماكن، الأمر الذي مكنّها من رسم أماكن وشخصيات الرواية بكل وضوح، وفي أحيان كثيرة بأدق التفاصيل معتمداً تقنية التصوير السينمائي. أما الحوار فيتم بين شخصيتين او اكثر باللهجات العامية للشخصيات، ويهدف الحوار الى مساندة السرد في بناء الرواية ورسم الشخصيات وتوضيح افكارها وقناعاتها وهمومها وتوتراتها، خاصة عندما تظهر لنا الشخصية وهي تناجي نفسها.
اقتباس:
«أصبح نهار المعتقل امتدادًا لليلة، إيقاعات متشابهان لنغمة واحدة هي غياب الشمس وامتداد العتمة والأنفاس المضطربة لجدران الغرفة، ورجفة الوقت وارتعاش عقارب الساعة» (ص١٦٥).
الإنسان هنا هو ضحية تراكمات انظمة سياسية متواطئة ترسم وتحدد له مصيره تشعره دائما بالاستلاب في علاقته مع نظامه السياسي والاقتصادي ونمط حياتها اليومي .
اقتباس:
” و هل غدا الوطن كومة تراب و صخور ؟ إنّك مخطيء ، و لن تدرك يوما بأن الوطن هو الحبل السرّي الذي يصلنا بالحياة ” ص 13 .
في هذه الرواية أظهرت الكاتبة تمكنا فنيّا كبيرا في حياكة عالمها السّردي ، رغم كلّ الوجع والألم الذي رافق أبطال الرواية ، وكان السّرد في أغلبه دفقا متتابعا من التأمّلات والاسترجاع للأحداث على ألسنة عدّة شخوص ، تقمّصوا دور البطل الذي يتولى السّرد المرير والحكي الأليم ..لغة السرد في الرواية على لسان الراوي العليم ، ولكنها لغة بسيطة في تراكيبها، ربما لأن ذلك يناسب موضوع الرواية وشخصياتها البسيطة. ومع أن لغة الرواية ليست رمزية إلا أن الكاتبة تستعمل التشبيه ودروب المجاز والاستعارة لتوظيف الايحاء.
اقتباس:
” تذكّر بأنّ الأرض هناك أيضا لم تعد أرضه . تذكّر بأنه بلا أرض بلا وطن و أنّه مجرد لاجيء أينما ذهب ” سامحك الله يا أبي ، لم أجبرتني على رحلة الاغتراب ؟ ” ص 15 .
يمكننا القول أن الرواية اعتمدت سرد الجمل القصيرة المكثفة وباتت ظاهرة التكثيف الدلالي والاختزال اللفظي سمة أسلوبية بارزة، بالاضافة الى تقنية “المنولوج” داخلية من استطرادات نفسية ، و من استرسال واسترجاع، للذكريات . مما يؤكد مصداقية الاحداث وحميميتها بالنسبة للمتلقي (القارئ) كونها تأتي من طرف ثالث، بعكس السرد بصيغة المتكلم (أنا) التي تضفي مزيداً من المصداقية والحميمية على النص بالنسبة للمتلقي كونه يأتي من شخصيات الرواية نفسها مباشرة.
اقتباس:
«ها هي ساعة منتصف الليل تدّقُ بلا عقارب ولا وقت، فالعقارب أصابها العطب والوقت مات وسط زحمة الرتابة، رتابة الحرب، الصفقات السوداء، وربما وسط رتابة قطرات الماء التي تتداعى تباعاً من حنفية الحمام وقد ملّت روتين الفتح والإغلاق» (ص٩١).
في النهاية، انها قصّة مأساة الشعب الفلسطيني المنكوب مرّات عدّة ، في الومزجت الكاتبة مزجا متقنا ورائعا بين مأساة الشعب الفلسطيني ونضاله في سبيل حريّته،تقسيم والنزوح إلى داخل الوطن وفي التهجير بعد الاحتلال الكامل ، والتهجير بعد التهجير.وقد مزجت الكاتبة مزجا متقنا ورائعا بين مأساة الشعب الفلسطيني ونضاله في سبيل حريّته،وقسوة الاغتراب..ضربت فيها أمثلة حيّة من البطولة النّادرة ، والشجاعة الخارقة التي تتجاوز كلّ العوائق والعقبات التي تسمّى – خداعا – مستحيلا ، وأثبتت التجارب أن لا مستحيل مع إرادة الإنسان الحرّ وعزيمته.
أنها رواية شيّقة وممتعة، والأهم هي قراءة في تفكيك بنية خطاب الاكراه الصهيوني للشعب الفلسطيني، خاصة للجيل الجديد الذي لم يعايش الاحداث التاريخية للرواية، أما الجيل الذي عايش الاحداث فسيجد فيها فرصة للتأمل في الماضي والحكم عليه من خلال التجارب الانسانية لشخصيات الرواية. إنها رواية تستحق القراءة بجدارة
………………………
*بديعة النعيمي كاتبة أردنية حاصلة على درجة البكالوريوس في الجيولوجيا، وصدر لها روايات “فراشات شرانقها الموت” و”مزاد علني” و”عندما تزهر البنادق”.