من الأمور المضحكة المبكية أنّك في الأردن تشعر، في أحيانٍ كثيرة، أنّك في لعبة “حلّ الألغاز” أو الكلمات المتقاطعة في محاولة فهم بعض القرارات والسياسات الرسمية وتحليلها وتفسيرها، والتي لا يمكن أن تؤدي إلا إلى تجريح مصداقية الدولة والنظام، وتعميق فجوة الثقة بكل المواقف الرسمية والسياسية، وتحرج حتى من يحاولون الدفاع عن الدولة وسياساتها.
كيف يمكن، مثلاً، فكّ لغز اعتقال عشرات الشباب، أغلبهم من طلاب الجامعات ممن خرجوا للتظاهر ضد التطبيع مع إسرائيل (بعدما وقع الأردن إعلان نوايا مع إسرائيل والإمارات لإقامة مشروعات وخدمات متبادلة بخصوص الكهرباء والماء)، يتم حجزهم وسجنهم، فقط لأنهم حاولوا التعبير عن رأيهم في ما يخص هذه الاتفاقية، وكان عددهم قليلاً جداً، لو لم يتم اعتقالهم ربما لم يكن أحدٌ، حينها، قد سمع بالاحتجاجات؟
المفارقة، وما أكثر المفارقات الأردنية، أنّ اعتقال الشباب يتم في ذروة الجهود الرسمية المخصّصة لإقناع الشباب بالولوج إلى العمل السياسي والحزبي، والحديث عن تمكين الشباب، وهو الأمر الذي أصبح جزءاً رئيسياً من الخطاب الملكي منذ تأسيس لجنة تحديث المنظومة السياسية.
لا غرابة، عندئدٍ، أن تعجّ مواقع التواصل الاجتماعي بسرد هذه المفارقة، تمكين الشباب من خلال اعتقالهم، لأنّهم عبّروا عن رأيهم في قضية وطنية! الأكثر طرافةً هو “الصمت الرسمي الرهيب”. لا أحد من الوزراء أو المسؤولين، أو حتى السياسيين المقرّبين من دوائر القرار، كان لديه تفسير، أو كان يجرؤ أن يبرّر الاعتقال أو يقول حاجة، أي حاجة.
أشعل اعتقال الطلاب، كالعادة، الشارع الأردني، وكانت النتيجة يوم الجمعة مسيرة حاشدة لأحزاب المعارضة، ترفض التطبيع وتهاجم التعديلات الدستورية وتطالب بالإفراج عن الطلاب المعتقلين، فضلاً عن أنّ صور الطلاب والشباب أصبحت تملأ مواقع التواصل الاجتماعي، وحالة التعاطف الشعبي معهم وصلت إلى الذروة، بينما الدولة لا تمتلك أي روايةٍ لا في تفسير الاعتقالات، ولا حتى في تبرير التوقيع على الاتفاقية، والدخول إلى هذا المشروع الثلاثي (مع الإمارات وإسرائيل).
تستمرّ لعبة الأحجيات الأردنية، عندما يُستدعى أهالي الطلاب المعتقلين، ويوقّعون على كفالات لأبنائهم، ويذهبون إلى السجون لاستلامهم، ثم يُفاجأون بمدير السجن يقول لهم: إنه لا يوجد لدي قرار بالإفراج عنهم، ولم أتلق أوامر بذلك. وفي بعض روايات الأهالي أنّه قال لهم إنّ الموقف تغير، وطُلب مني عدم الإفراج عنهم.
إذا تجاوزنا قضية الاعتقالات، وعدنا إلى موضوع “إعلان النوايا”، فكيف يمكن أن نفسّر لغز أن ينفي وزير الإعلام والاتصال، فيصل الشبول، صباح يوم التوقيع، أن يكون هنالك اتفاق، ثم في مساء اليوم نفسه يكون وزير المياه والري، محمد النجار، في الإمارات يوقع على الاتفاقية! وتُنسب إلى الأخير تصريحاتٌ بعد ذلك أنّ التفاوض حول إعلان النوايا كان فقط خلال 24 ساعة! تخيلوا مشروعاً مثل هذا، بآثاره الاقتصادية وأبعاده الاستراتيجية ونتائجه السياسية، اختلفنا أم اتفقنا معه، يتم خلال يوم فقط! كيف يمكن أن يفهم أي مواطن أردني مثل هذا التضارب في التصريحات والرسائل الإعلامية غير المدروسة وغير المفهومة، في دولة نسبة التعليم فيها عالية، والاهتمام بالسياسة في بيت كل أردني تقريباً؟
لنتجاوز مسألة أن نتفق مع قرارات أو سياسات حكومية معينة. الكارثة أو المصيبة تتمثّل في أنّه لا يتم التحضير لها، بل يختفي الوزراء والمسؤولون والسياسيون ويتوارون عن الأنظار عندما يتطلب الموقف من يدافع عن تلك السياسات والقرارات، ولا تجد من يقف ليدافع عنها بإدراك فعلي لها!
بالعودة إلى موضوع اعتقال الشباب ومخرجات اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، ما حدث يعتبر ضربة قاصمة لخطاب الدولة ومصداقيتها ولمخرجات اللجنة. ومن البديهيات أنّ تمكين الشباب سياسياً يتطلب بيئة سياسية حاضنة لهم ورسائل طمأنينة أنّ الدولة، هذه المرّة، جادّة وجدية، وهو ما كان الخطاب الرسمي يحاول التركيز عليه إلى أن جاءت الاعتقالات لتضع الجميع في حالة من الحيرة والارتباك في حلّ مثل الألغاز.