لتوها، ترجلت مريضة خمسينية عن صهوة سرير التعافي المهزوز أصلا، مُستلة سيف قانون يحظر سحب الدخان القاتلة في المستشفيات، لاهثة، باحثة، عن مصدر تلك “الغيوم”، فارتد سيفها المقطوع لغمده بعد استهزاء صاحبة “مزاج عال”، بقانون كُتب على ورق رفع العتب، وما من حسيب؛ طالما اغتيلت الرقابة الذاتية على مذبح الادمان وإيذاء الناس.
هذا في الشكل، وعن المضمون؛ ففي العنبر الذي يجمع مريضات خرجن من عمليات جراحية كبرى، تستقبلك سُحب السجائر ورائحتها النتنة المنبعثة من “حمام الغرفة المخصص للمريضات”، بيد أن “زائرة أومرافقة”، “استولت” عليه وحجزته لوقت ليس بالقصير، بحثا عن “متعة” التدخين داخل المستشفى الذي يفترض عبوقه برائحتي التعقيم والنظافة، ولاسيما في زمن “كورونا”، لا بغيوم متلبدة، ومكرهة صحية، تسببت بها الباحثة عن قسط من “النيكوتين” على حساب صحة المريضات وقانون حظر التدخين في الأماكن العامة، ما أدخل احداهن بحالة اختناق، لم تشفع معها “تبخيرة” للحيلولة دون نوبة سعال وضيق نفس، ناهيك عن اعتراض الجميع على سلوك المدخنة غير المسؤول، فهذه ” تبخيرة ليس فيها خيرة”، ولم يكن كيها آخر العلاج، بوجود من ضاقت عليها ارض التدخين بما رحبت.
والأدهى، أن اعتراض المريضات على اختراقها، “حرمة” صحة الناس، واستهزائها بألمهم، وتأوهات أوجاع ما بعد العمليات، قوبل من “المدخنة الشرهة” باستهجان وتعال: قائلة: “شو صار يعني، دخنا ومشي الحال، ما بدها هالقد”، وسط حالة من “التراخي” من أحد الممرضين، الذي وافقها ضمنا على ما قامت به، بحجة درء تفاقم المشكلة بين المريضات والزائرة، فيما حاول آخر أن يهون من هول، ما وصفته أحداهن، بجريمة الصحة، “زائدا على طين الموضوع بلة”، بقوله: “شو عملت البنت دخنت سيجارة، شو بتحكوا لكان لو شفتوا بعض مرافقين المرضى بيدخنوا الأراجيل في ساحة المستشفى”.. !
أما صاحب مزاج اقترافي آخر، فقد أنتقى غرفة “الأشعة” في أحد المستشفيات “مُعمّرا نفس أرجيلة”، ولدى مداهمة التفتيش له، ألقى بها من شباك الغرفة، ولكن سرعة “السرقة” لم تسعفه في إخفاء أداة فعلته “بربيش الارجيلة” الذي علق، وظل شاهدا على “جريمة الإكس ري”، التي مورست من قبله، رغم إنذارات عدة وجهت له، وفقا لمعني بهذا الشأن، بيد أن التدخين في مؤسسات رسمية، ينتعش كلما كان مديرها العام، أو مدراء المديريات فيها من المدخنين، حيث التراخي “على أصوله”، بينما يتجمّع عمال نظافة مع بعض الموظفين في بيوت الدرج، طلبا لوقت مستقطع مجبول، وللأسف، برائحة النفايات و”النيكوتين” في آن معا.
وعلى المقلب الآخر، وإذا أردت عداوة زميل، أو زميلة، اطلب منهما، الكف عن التدخين في المكتب، فيكون لك ما أردت، فعن أي قانون صحة عامة نتحدث إذن؟ وكيف لا يشعر موظف في مستشفى حكومي بالذنب، وهو “بيمد حاله وبيدخن على كاونتر”، أحد الأقسام، حارقا بعرض”الكبريت” أسس الصحة وتبعاتها، وذلك، كما نقلته عدسة “كاميرا”، بالصوت والصورة، حيث احتفظت ب”الفيديو” الذي يوثق ذلك، لعرضه على من يهمه الأمر- إذا يهمه ذلك – قبل عرضه على العامة، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كما يفعل بعضهم طمعا في “شوية لايكات”.
والسؤال الذي لا بد منه، كيف يسمح لكائن من كان، سواء أكان مرافقا أم زائرا أم كادرا طبيا وتمريضيا، أم عمال نظافة، بأن يمارسوا “فاحشة” التدخين ضمن الصروح الطبية تحديدا، حتى لو كان الأمر مجرد سلوكيات فردية لا تنسحب على كل المستشفيات والمراكز الصحية، فحتما هنالك التزام في بعضها، وتراخ مفضوح في بعضها الآخر.
في موازاة ذلك، يؤكد أحد القائمين على الرقابة والمتابعة في أحد المستشفيات، أنه وعلى الرغم من حملات التفتيش المستمرة، هنالك ما يسمى ب”النقاط العمياء”، مثل الحمامات و”تحت الدرج”، وغرف الاستراحة، تُشكل بدورها بؤرا لاهداف متسللة، في مرمى الوقت الضائع من حياة الباحثين عن بقايا صحة، “فكيف بنا ندخل لحمامات النساء أو الرجال أثناء إغلاقها واستعمالها من قبلهم”؟ على حد تساؤله.
في وقت يوجد به، مثلا، أجهزة حساسة للتدخين، من الممكن الاستعانة بها، إذا لم يشكل صوتها إزعاجا للمرضى، لكن أثرها الصحي يظل اقل ضررا من سموم السجائر، وفقا لمعنيين.
على صعيد مؤتلف، هل يعرف متجاوزو القانون من أصحاب “المزاج الرايق الذي في غير مكانه ولا زمانه”، انهم يقدمون شرارات الكوارث في بيئة تعج بالقنابل الموقوته حيث اسطوانات ونقاط “الاوكسجين” الموجودة حتما لإنقاذ المرضى، وليس لحرقهم، وخاصة إذا تعرضت لأي تسريب؟ هل يجب علينا أن نعيش كارثة احتراقها بشرارة إشعال سيجارة هوجاء حتى نتعظ ونتعلم؟ ام أننا لا نعرف استباق الاحداث بالحذر والوقاية والإلتزام بحذافير القوانين، إلا عندما تتحول قصصنا إلى “تريند” عبر “السوشيال ميديا”، ما يضغط على المسؤول لتشديد الرقابة “الفزعة” التي ما تلبث أن تتلاشى بأفول الضغط “السوشلي”..!
أمام هذا التراكم لسحب تتطاير في سماء غرف مستشفيات، كيف نضبط إذن “التفلت الدخاني” الحاصل في سيارات الأجرة، والحافلات العمومية، حيث النقاش العبثي المشفوع بإجابات محفوظة عن ظهر قلب” مش عاجبك إنزلي من السيارة.. وفوق.. الطفر اللي إحنا فيه بدكم تمنعونا ندخن..”، وغيرها من أجوبة مُعلّبة، مُنتهية الصلاحية، فاسدة في اطرها ومضامينها ونتائجها، مُسمّمة لذوقنا العام، ولهالات حرياتنا الشخصية، في حماية أنفسنا من التدخين السلبي، المفروض علينا قسرا.
وبينما تبين مصادر رسمية أن الاردن من الدول الثلاث الأولى على مستوى العالم بالتدخين، فإن الحملات التوعوية والتثقيفية والجهود الحكومية والمجتمعية المبذولة لمكافحته ومنعه خاصة في الأماكن العامة، لم تؤت اوكلها كما يجب، ورغم إحصاءات تشي بموت تسعة آلاف مواطن سنويا نتيجة الامراض ذات الصلة بالتدخين، فان “السلطات عاجزة عن تطبيق القانون، ولا يمكن لها مراقبة كل زاوية من زوايا المملكة”، وفقا لأحد المعنيين بملف مكافحة التدخين..
في وقت يتقاطع فيه قوله مع تصريحات لمصادر طبية، تقول: “لا يوجد التزام جدي بتطبيق قانون الصحة العامة، واتفاقية منظمة الصحة العالمية الإطارية بشأن مكافحة التبغ، إذ لا حظر للتدخين ببيئة العمل ولا في المستشفيات، التي يدخن فيها الاطباء قبل الزوار”.
هذا عدا عن حالة من فلتان التبغ في دكانين تبيع المراهقين “سجائر فرط”، في لجة عودتهم من المدرسة، ناهيك عن “تسوناني” الأراجيل الذي يغزو المقاهي والبيوت والأرصفة وأسطح المنازل وشرفاتها وبعض المحال التجارية وجوانب الطرق، ضمن رحلات تنزه باتت فيها الأرجيلة، ” متطلبا إجباريا”، تسقط بدونها الرحلة.
وعطفا على ما تقدم، إلى أي درجة سينجح تنفيذ اتفاقية تفويض مهام التفتيش على مخالفات التدخين لأمانة عمان الكبرى في الحد من التدخين في المستشفيات بشكل خاص، وبقية الأماكن العامة على وجه العموم؟ ولماذا لا يجتهد المواطن من تلقاء نفسه في مساعدة الجهات المعنية في الإطار عينه، لاسيما وأن ثلث حالات مرض السرطان مردها للتدخين، فاذا لم يلتزم المدخن بقانون، ولا يخشى من عقوبة، ولا يأبه بصحته، ولا بصحة الآخرين، فما الحل إذن؟
هل بتغليظ العقوبات المالية مثلا، حتى تثور ثائرة الناس، فيعززوا شعار”حكومة الجباية”، خوفا على “نيكوتينهم” قبل كل شىء، هل بتفعيل عقوبات الحبس؟ حتى يتحول المسجون لمعتقل حرية وكرامة عيش، فينسى الناس او يتناسوا “تدخينه” الذي يرونه عاديا، فيحوّروا القصة لضرورة مكافحة الفساد أولا وسجن الحيتان، “قبل أن تأتوا على فقير يدخن”، في محاولة لخلط الاوراق، والتخفيف من خطورة وتكلفة التدخين على المجتمع والدولة في آن معا.
ورغم توفر عيادات الإقلاع عن التدخين، إلا أن واقع الحال لا يلحظ تحقيق المراد، طالما بعثر المزاج المرتبط حكما بتوليفة الإدمان واقناع الذات أن السيجارة “بتفش الغل وبتشيل الهموم”، إذن سنبقى نعاني من مجتمع، يذهب به الفرد لزيارة مريض برفقة سيجارته، ولا يراعي سائق سيارات الأجرة حالة الناس وأمراضهم، وخلعه لكمامة الوقاية من “كورونا” لشق الطريق بين فمه والسيجارة القاتلة، في وقت يدركون فيه أن أحدا لن يطبق عليه عقوبة “الحبس مدة لا تقل عن شهر ولا تزيد على ثلاثة أشهر أو بغرامة لا تقل عن مئة دينار ولا تزيد على مئتي دينار لكل من قام بتدخين أي من منتجات التبغ في الاماكن العامة المحظور التدخين فيها”، بل ستبقى تحذيرات “ممنوع التدخين” طباعة على ورق، ليس إلا، طالما لم يأت الحل من ذواتنا وارادتنا قبل كل شيء.
و طالما لم يقرر المُدخن من تلقاء نفسه الكف عن هذا السم بإرادة وحزم، فإن الرهان على التوعية والتثقيف لم يخفض نسب المدخنين كما نريد، وفقا لمصادر طبية مطلعة، تؤشر ضمن تقرير نشر العام المنصرم على الفاتورة العلاجية التي ترهق ميزانية الدولة، فكلفة علاج المرضى بسبب التدخين، مليار و600 مليون دينار، فيما تزايدت صرعة” السيجارة الالكترونية” التي اضحت “برستيجا” وقناعة من قبل البعض بانها”صحية”، في ظل تأكيد مصادر طبية عالمية انها تتلف القلب والرئتين والأوعية الدموية، وتتسبب بتصلب الشرايين، مثلها مثل السجائر العادية، وتقلل من مقاومة فيروس “كورونا”، فضلا عن احتمالية إنفجار بطاريتها في وجه المدخن.
ماذا ينفعكم أن تشتروا من مالكم الخاص المتآكل حُكما، سرطانات: الرئة والفم والحنجرة، المريء وعنق الرحم والكلى والمثانة والبنكرياس، المعدة والقولون والمستقيم، الدم النخاعي الحاد، والكبد، فضلا عن شرائكم لأمراض القلب والاوعية الدموية، واستدراجكم للازمات القلبية و السكتات الدماغية، وأمراض الشرايين والجهاز التنفسي، ورفع مستوى السكر في الدم، والعجز الجنسي والعقم، واضطرابات الطمث وإعاقة نمو الجنين، عدا عن الحمل خارج الرحم، والتهاب المفاصل، وضعف وظائف الجهاز المناعي، وظهور علامات الشيخوخة، ناهيك عن احتمالات التسمم ب “النيكوتين” الذي يشبه التسمم بمبيد حشري، على ما ذكرت الشبكة العنكبوتية في ملفاتها العلمية.
إذن ما هذا “العشق الممنوع” لسم قاتل تحتوي كل لفافة منه، بحسب مصادر صحفية عالمية، استندت إلى مصادر طبية موثوق بها، على ما لا يقل عن 440 مادة سامة ومسرطنة، يتصدرها: البنزين، وال”ميثانال” المستخدم في عمليات التحنيط، والقطران، المُلّون للاسنان والاصابع، و”الزرنيخ”، الذي يستخدم لقتل الفئران، وال”كادميوم”، المعتمد عليه في تعبئة البطاريات، و”الكروم” المستعمل في الدهانات، و”سيانيد الهيدروجين”، الضار بالقلب والأوعية الدموية، و”أول أكسيد الكربون” الذي يقلل من كمية “الأوكسجين” المنقولة للدم، و”أكسيد النيتروجين” الموجود في عوادم السيارات، و”الأمونيا” الذي يستعان به لتنظيف الحمامات، هذا وتكمن خطورته أيضا، في تحويل “النيكوتين” إلى غاز يسهل امتصاصه بواسطة الرئتين والدم، ما يزيد من فرص إدمانه.
وبعد..، وقبل رحيل العمر، “وبالإذن من وحي كلمات الراحل نزار قباني”، متى ستدركون، “انكم تطاردون خيط دخان”، تفّوق عليكم، وطرد صحتكم، وهناء عيشكم، وما تبقى في جيوبكم وأعماركم !
ekhlasqadi@hotmail.com