قراءة نقدية يكتبها سعيد الصالحي رواية “حنظلة” لبديعة النعيمي

“حنظلة” رواية خارج الحدود وسرد يجاور التاريخ
الكاتبة بديعة النعيمي في روايتها “حنظلة” كانت تدفعني لأن أوقف القراءة وأعيد النظر إلى اسمها المكتوب تحت اسم الرواية وتحت خارطة وعلم فلسطين، للتأكد من أن كاتبة هذه الصفحات أنثى، لقد تمكنت الكاتبة بديعة النعيمي من القفز خارج حدودها الأنثوية وخارج حدودها الجغرافية لتحملك عبر آلة الزمن الخاصة بها بين عوالم وفترات زمنية مختلفة كانت فلسطين خلالها هي المشهد وهي المفعول بها في سياق الجملة التاريخية، ولم تنقلني الكاتبة النعيمي بين الجغرافيا والتاريخ وحسب بل حملتني داخل سيكولوجية الأسير والمهاجر واللاجئ والخائف والعاشق والخائن والمضلل، وجعلتي أضمد الجراح البدنية التي لا تعني شيئا عندما تعصف بدواخلنا ونفسياتنا ريح الألم وتسحبنا دوامات الحزن والندم بعيدا في محاولة لاسترجاع الماضي وتصحيح الاخطاء.
الاحتلال الصهيوني لم يبدأ عند احتلال فلسطين فالهيمنة الصهيونية تحتل الكثير من المؤسسات والدول في العالم، ولا تتوقف في أمريكا على امتلاكها لكبريات الصحف وتحكمها بوسائل الاعلام وصناعة السينما، بل ساهمت في تكوين الصورة النمطية عن الأمريكي الذي ينحدر من جذور افريقية، وكذلك رسمت صورة حزينة لليهودي المسكين المغلوب على أمره، وطبعت صورة العربي الهمجي المتوحش في أذهان وثقافة الغربي الذي يتعاطى مع وسائل الإعلام على أنها مصدر معلوماته السريع والموثوق في ظل هيمنة رأس المال على وقته وحياته ومقدراته اليومية، لقد تناولت الكاتبة النعيمي هذا الجانب من خلال علاقة حنظلة مع مارتن الأمريكي الأفريقي المثقف والذي يتعاطف مع قضية فلسطين من خلال الثقافة التي تركها والده له في مكتبة ضخمة قبل أن تغتاله عصابات الصهيونية التي تغتال الفلسطيني والمتعاطف معه والمؤمن بانسانية وعدل قضيته في كل مكان، أن الخيط الرفيع الذي ربطت به الكاتبة النعيمي بين احتلال فلسطين جغرافيًا واحتلال الفكر الشعبي الأمريكي والمؤسسات الأمريكية المؤثرة عن طريق وصف حياة حنظلة اللاجئ في كل مكان والأمريكي مارتن اللاجئ في هارلم أيضا.

وتناولت الكاتبة بديعة المرأة الفلسطينية والعربية بطريقة مميزة واختارت الموت دائما نهاية سعيدة لهن، فمعظم النساء اللاتي ذكرتهن في الرواية قد متن وكأن الموت هو السبيل الوحيد الذي يحرر المرأة من همومها وعذاباتها سواء أكانت هذه المرأة صالحة وقوية كحياة أم حنظلة أو صالحة وبسيطة كمقبولة وحتى وإن كانت خائنة كزهرية، فالموت هو المكان الذي ستبدأ من عنده المرأة في استرداد حقوقها، حتى عندما أحترقت الفتاة البكماء الصماء، فقد أحرقت الكاتبة النعيمي كأنثى تلك المرأة الأداة التي تستغل في محاولة منها لرفض الدور الذي أجادت اللعب به الحركات الصهيونية منذ أن وضعت فلسطين على بوصلة أهدافها، ولقد وصفت الكاتبة بديعة النعيمي حياة الأسيرات العربيات في سجون ومعتقلات الكيان الصهيوني الذي لا يميز بين إمرأة أو رجل عندما يتعلق الأمر بالحفاظ على أكذوبته التاريخية المسماة بأرض الميعاد.

ميناء يافا، حارات القدس، القرى الفلسطينية ، المخيمات الفلسطينية التي وصفت تفاصيلها الكاتبة النعيمي خلال سردها لأحداث الرواية كأنها قد زارتها آلاف المرات مع أني أظن أن الكاتبة النعيمي ما زالت شابة ولم تزر فلسطين فعليا ولم تشهد حروب العرب وخيباتهم إلا من خلال ثقافتها الواسعة وأحاديث الأهل والأصدقاء الذين عايشوا هذه الجغرافيا بمعالمها التي حفرتها للأجيال في صفحات هذه الرواية، ولم تكن الكاتبة النعيمي عاطفية في وصف فلسطين ما قبل الاحتلال بأنها جنة ومدينة فاضلة بلا أخطاء، كانت تخبرنا على لسان شخصيات الرواية ذلك الواقع الذي عاشه الفلسطيني قبل الاحتلال وبعده وكأن الاحتلال هو فقط من جعلنا ننظر إلى النصف الممتلئ من كأس فلسطين، فبتنا نعشق فلسطين حتى عندما تظلمنا زوجة الأب ونعيش اليتم الذي أصبح جزءا من شخصية كل لاجئ بصرف النظر عن مكان اللجوء ومستوى المعيشة، لقد أكلت الذرة المشوية في ميناء يافا مع حياة وناجي وأخفقت مثلهم في عد الأمواج التي تتضارب في داخلي قبل أن تضرب الشاطئ.

اختارت الكاتبة النعيمي بذكاء اسم “حياة” لوالدة حنظلة التي وأن التهمت النيران مذكراتها في أمريكا وخطفها الموت بعد إصابتها بالسرطان، “حياة” التي حكمت بثلاثة مؤبدات استطاعت الفرار من السجن عند أول سكرة من سكرات الموت، فلم تحجز مؤبدات المحتل سيرتها التي انطلقت من سجن الرملة إلى نيويورك لتختار الموت حرقا هناك، فالحياة ستسمر لهذا الشعب ولن يتوقف هذا الشعب عن الأخذ بأسباب الحياة حتى يعود إلى فلسطين، وبذكاء كبير يحسب لها أيضا لم ترسم لنا الكاتبة بديعة ملامح حنظلة فقد كنت أتخيله طوال الرواية وفي كل المشاهد من ظهره كأن ملامحه باتت لغزا عابرا للأجيال كلغز الطائرة الفرعونية ولمبة بلاد الرافدين، واختارت بمهارة أيضا اسم “ناجي” لوالد حنظلة ليس لتكريم الفنان الفلسطيني العالمي ناجي العلي وحسب بل لتقول لكل العالم بأن هذا اللاجئ سينجو حتى يحقق حلمه بالعودة.

وكقارئ كنت أتمنى ألا يعود “حنظلة” إلى فلسطين بجواز سفر مزور وألا يعود بمعاونة مارتن رغم تعاطفه مع قضيتنا، بالطبع كنت أتمنى أن ينجو من التهمة فقط ولكن لم أحبذ فكرة العودة إلى فلسطين بجواز سفر مزور كنت أفضل أن تحملني آلة الزمن التي عادت بي إلى بابل وفارس في صفحات الرواية الأولى وأن يعود حنظلة منتصرا ليكشف عن ملامحه في جولة في كل مدن فلسطين، كنت أتمنى وأن أقترب من الصفحات الأخيرة أن ينجو حنظلة من التهمة وأن يحقق هدف والده ووالدته بالحصول على العلم والمعرفة التي ستغير منهج التفكير العربي التقليدي لأن المعرفة والعلم وتغيير طرق التفكيير هي من أهم مفاتيح قفل عودتنا إلى فلسطين.

هذه الرواية لا تستحق القراءة وحسب بل يجب أن تفوز بالكثير من المحبة والتقدير، وصدق المثل العربي الشهير “لكل إمرئ من اسمه نصيب” فكانت الرواية “حنظلة” بديعة كاسم كاتبتها بديعة النعيمي.