نساء النهضة: هل من سبيل لاستعادة الثقة؟

بقلم د. منن صدقي حطاب

لطالما تغنينا فخراً نحن أبناء العالم العربي بالسمات المشتركة بيننا، لكن خلال السنوات القليلة الماضية برزت على السطح سمة مشتركة قديمة وخفية، جديدة وظاهرة على امتداد وطننا العربي الكبير وهي أزمة الثقة بين المواطن العربي والمؤسسات الرئيسية في بلده.

وليس سراً ولا هو بالأمر الصعب تفسير ما وراء هذا الكم المتزايد والتدفق اللامتناهي من النكات والتعليقات الساخرة على وسائل التواصل الاجتماعي على الصعيد المحلي التي ترافق أي حدث سعيد أو مفجع أو حادثة أو إجراء أو قرار جديد، فهذا يعكس اتجاه الناس للتعبير عن سخطهم بهذه الطريقة المبطنة، لكن هذه النكات والسخرية في الحقيقة رسائل وإشارات “تعبير شعبية” وجب على الحكومات “الفطنة” ومراقبي مزاج الرأي العام وواضعي السياسات التقاطها وتحليلها، والاستجابة لها إيجابياً وإجرائياً وليس تجاهلها.

نظرياً؛ تعرّف الثقة بأنها علاقة اعتماد بين طرفين ووليدة إطلاق الوعود والإيفاء بها، وثمة إجماع على أهمية بنائها لبقاء المجتمع، ودلالة على وجود توافق في الآراء بين أفراد المجتمع حول القيم والأولويات والاختلافات المشتركة، كما تشير أيضاً؛ إلى توقعات المواطنين لنمط الحكومة، وكيف ينبغي لها أن تعمل وتتفاعل مع المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والمواطنين.

لكن فجوة الثقة بين المواطن وبين المؤسسات الرئيسية المتحكمة والمؤثرة في الفضاء العام، تتسع يوماً بعد يوم، سواء المؤسسات السياسية وأدواتها كالحكومة؛ والبرلمان؛ والبلديات؛ والنقابات؛ والاتحادات؛ والأحزاب وما إليها، أو المؤسسة الاقتصادية التي تندرج تحتها القرارات والإجراءات المتعلقة بالإنفاق الرأسمالي ومجالات الاستثمار، وسياسات التوظيف، ونسب البطالة المتزايدة وتوزيعها الجغرافي والعمري، واتساع وتمدد جيوب الفقر، وأسعار السلع والخدمات، وحركة البيع والشراء والضرائب متنوعة التسميات، والنسب إضافة إلى انعكاسات ارتفاع الديون وعبء فوائدها للخارج.

فضلاً عن المؤسسات المجتمعية والمدنية والدينية، والمؤسسة الإعلامية التي تشكل عادة الجسر الواصل بين المواطن والمؤسسات المختلفة والناطقين بلسانها، ورموزها البارزة الذين يتولون صياغة وتحليل الخبر وما خلفه، والمساهمة في إدارة وتشكيل الرأي العام، ولعل أحد أبرز أسباب اتساع فجوة الثقة يعود لتأثيرات السلبية والضغوط المتزايدة التي نتجت عن جائحة كورونا من قرارات مستحدثة، وإجراءات غير مدروسة على المواطن غالباً، قد أدت إلى تردي علاقة الثقة بين المواطن والمؤسسات المختلفة، الأمر الذي زاد من مشاعر القلق والتشكيك والنفور والنكوص والاغتراب، وشكل تهديداً محتملاً للعلاقة بين الطرفين، وإضعافاً لروابط النسيج الاجتماعي والشكل المتعارف عليه منذ عقود للعقد الاجتماعي القائم بينهما.

ووفق استطلاع أجراه مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية في تشرين الأول/أكتوبر 2021، حول أداء الحكومة بعد عام من تشكيلها، فإن 67% من الأردنيين الذين شاركوا في الاستطلاع لا يثقون بالحكومة، وقد تصدرت البطالة والفقر وارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة وتدني الرواتب وتدني مستوى الخدمات وتردي الأوضاع الاقتصادية بشكل عام ، قائمة أهم المشكلات التي تواجه الأردنيين، مما يحتم على الحكومة ضرورة معالجتها بشكل فوري، كما يعتقد 87% من أفراد العينة انتشار الفساد المالي والإداري، وأن الوزراء وكبار موظفي الدولة هم الفئة الأكثر إسهاماً في انتشاره.

كما أبرزت نتائج الاستطلاع، توسع وتعمق أزمة الثقة بين أفراد العينة ومؤسسات الدولة المختلفة، فثقتهم تراجعت بمعظم مؤسسات الدولة كالقضاء، والنقابات المهنية والعمالية، ووسائل الإعلام المحلية، والأحزاب السياسية، ومجلس النواب، والأوضاع المعيشية، وأسعار السلع والخدمات، وحتى بمصداقية التنزيلات، فيما أعتقد 35% منهم أن الحل الأنسب لمعالجة الفساد المالي والإداري هو تشديد الرقابة، ووضع قوانين صارمة للحد من الفساد والواسطة والمحسوبية، والعمل على محاسبة ومحاكمة الذين تثبت عليهم قضايا فساد، وضرورة اختيار الأشخاص النزهاء والأكفياء في المناصب الحكومية، ومن المؤشرات الأخرى التي تم قياسها هو مؤشر الثقة المجتمعية، إذ تبين استمرار فقدان الثقة بين الأردنيين أنفسهم (72%)، وهذا مؤشر خطير – كما أشار الاستطلاع- على الاستقرار المجتمعي، و مهدد لجهود بناء سياسات الاندماج الاجتماعي والنمو الاقتصادي والإصلاح السياسي.

تؤمن منظمة النهضة للديمقراطية والتنمية (أرض) بأن الثقة هي قانون العمران الأهم، فهي الدعامة التي تحمي المجتمع والجماعة، وتتقدم على الروابط البدائية والمصالح المشتركة في توفير الأمن والعيش الكريم والرفاه، ولأن تأسيس الشبكة جاء لتقوية وإنجاح العمل الجماعي القائم على الثقة، فقد كان محور “الثقة وأسباب غيابها وطرق استعادتها” هو موضوع الحوار المجتمعي “نقش” بين عضوات شبكة نساء النهضة، إحدى الشبكات المنبثقة عن منظمة النهضة (أرض).

“نقش” سألت عضوات شبكة نساء النهضة عن “غياب الثقة وطرق عودتها”، حيث تنوعت الإجابات والآراء، وجاءت انعكاساً لتنوع خلفيات وتجارب عضوات الشبكة، لكن أجمعن على أهمية تعزيز الثقة وضرورة المحافظة عليها، والتحذير من عواقب بهتان دورها بل وفقدانها. فاعتبرت إحدى عضوات الشبكة وهي عضو سابق في مجلس النواب الأردني- “أن الثقة قد تكون حالياً في أدنى مستوياتها، فهي نتاج لأداء جماعي يتطلب إعداداً وافياً لجميع أفراد المجتمع دون تمييز، حتى يصبحوا قادرين ومؤهلين للمشاركة في جميع مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للبلاد”، وأوضحت أن عوامل تعزيز الثقة متعددة ومتشابكة، ومن أهمها وجود أطر واضحة للعمل الجماعي والعلاقات الاجتماعية، إضافة إلى الإيمان بقدرات وصدق النوايا لدى الآخرين، وإتاحة العمل بحرية ودون ضغوط ودون تتبع للأخطاء.

بينما اختزلت عضوة أخرى، إجابتها عن سؤال نقش بعبارة “من لا يملك أمره لا يعوّل عليه”، وأرجعت فقدان الثقة بالمؤسسات والعاملين فيها في أغلب الأحيان إلى تباين الأداء ودرجة المصداقية والقيم المختلفة، وأن الحل الوحيد هو بالثقة بين جميع الأطراف، وشددت على أن من يقبلوا تبوأ المناصب القيادية، عليهم أن يقدموا أبرز نماذج للقيادة المجتمعية، فيما اعتبرت عضوة أخرى أن بناء الثقة يأتي من الأفعال التي تتوافق مع الأقوال، ومن تنفيذ ما تم التخطيط له، ومن الشعور بأن الشخص أو المؤسسة له/لها سند، ولن يترك/تترك وحيدة عند تأزم الأمور.

أما المحاميات من بين عضوات شبكة نساء النهضة فكان رأيهن بأن “الثقة تنطلق من ترجمة الأقوال إلى أفعال، ولذلك هناك فجوة بين الحكومة والشعب، فالأقوال والأفعال لا تعكس الواقع الذي يعيشه الأفراد، بينما قالت إحدى المحاميات “كما أن بناء الثقة بحاجة لسلسلة من الإجراءات من خلال سياسات وبرامج إصلاحية هادفة على الأصعدة القانونية والإدارية والقضائية، فلا ثقة من غير عدالة “.

في حين كان تلخيص الإعلاميات لمسألة الثقة وكيفية بنائها بأنها “تبنى أساساً على تطابق النوايا مع الأفعال من مؤسسات صنع القرار والمؤسسات التنفيذية، وأن نتائج هذه القرارات تدعم الثقة بالمنظومة الرسمية والمنظومة المجتمعية، وعليه؛ فالثقة هي مسؤولية جماعية يشترك فيها كافة أفراد المجتمع”.

ولأن القطاع الخاص يتأثر بالقطاع العام سلباً وإيجاباً، فقد شددت إحدى عضوات الشبكة من القطاع الخاص على ضرورة أن يتم اتخاذ قرارات ومبادرات سريعة لانتشال القطاع الخاص من “القاع”، وضرورة تحفيز النمو مجدداً، مشيرة إلى ضرورة تصنيف القطاعات “بين المتضرر والأكثر تضرراً بسبب جائحة كورونا التي فاقمت من أزمة الثقة في البلاد، وكانت مدمرة لمعظم القطاعات الاقتصادية.

وعليه؛ نظرياً ووفقاً للأدبيات المنشورة، تتولد الثقة وتتجلى صورها من خلال شبكة العلاقات التفاعلية بين الأفراد والمجتمع المحلي والمؤسسات المختلفة، عندما تقوم المؤسسات بأداء المهمات المطلوبة والمتوقعة منها، ومعالجة مختلف القضايا والتحديات بكفاءة ومهنية ومسؤولية، ودرجة عالية من الشفافية والجدية في محاربة الفساد بأسلوب يتسق مع توقعات المواطنين منها لتحقيق مصالحهم، وضمان حصولهم على الخدمات الأساسية النوعية من صحة وتعليم وفرص عمل ومسكن وحياة كريمة وعدالة اجتماعية للجميع دون تمييز، مما يترتب عليه ارتفاع في مستوى المشاركة المدنية والسياسية للمواطنين، وانخراطهم في العملية السياسية وصنع السياسات العامة، وفي الامتثال للقوانين واللوائح، والإسهام في إضفاء الشرعية على مؤسسات الدولة، والمحافظة على الاستقرار والأمان المجتمعي.

ولا شك أن ثمة أزمة مركبة ومتعددة الأوجه في البلاد قد عمقت فجوة الثقة بين المواطن والمؤسسات المختلفة، وهو ما أشار إليه أيضا تقرير “حالة البلاد” الصادر عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي لعام 2018، والذي أشار إلى وجود تراجع وضعف في أداء مؤسسات الدولة، ورغم ذلك فإن “الحكومات واصلت السير على النهج الاقتصادي والسياسي والإداري ذاته من دون معالجة جذرية لهذا التراجع، فتعثرت محاولات الإصلاح” كما جاء في التقرير.

أخيراً في هذا السياق؛ فإن أحد أسباب الفشل هو كون الخطاب جاء ممن يملكون ترف الانتشار ومساحته الواسعة مقارنة بالسواد الأعظم من المواطنين، لكنهم في حقيقة الأمر خيبوا الآمال بخطاب غير شفاف يحمل مضامين ورسائل لا تعكس حقيقة الواقع المعاش، ولا تعبر عن صوت ومطالب من لا صوت لهم وهم الأكثرية.

وبعد الإقرار بغياب الثقة بين المواطن والحكومة، فإن السؤال الأكثر إلحاحاً اليوم: هل من الممكن استعادة ما تبقى من فتات الثقة؟ الإجابة: ربما؛ لكن هذا يتطلب جهداً جباراً، وإرادة صادقة من صانعي القرار، تعيد النظر جدياً في الجذور المسببة لتراجعها، وتكون قادرة على التقاط ما تبقى منها ولملمتها بإجراءات فعلية وفعالة، حقيقية وفورية، وبعقل واع، وضمير وحس وطني يقظ يكون حريصاً على استعادتها من جديد قبل فوات الأوان، فلا نريد أن نصل مرحلة لا ينفع معها البكاء على اللبن المسكوب، كما يقول المثل الشهير.