صلاح أَبولاوي
في ثلاثيته “أميركا والإبادات الجماعية” أشار الكاتب منير العكش إلى أن الأنجلو ساكسون الذين احتلوا القارة الأمريكية، إنما فعلوا ذلك على أساس ديني، وإنها الأرض الموعودة التي وعد الرب بها، فقتلوا ثلاثة أرباع السكان الأصليين بإسم الرب، وأقاموا دولتهم التي لا تزال حتى اليوم تمارس الإجرام ضد شعوب العالم وتمارس التمييز العنصري ضد سكانها.
أسوق هذه المقدمة لأن العصابات الصهيونية مارست الخديعة ذاتها، والإجرام ذاته، في خطتها لاحتلال فلسطين وهو ما لم يغب عن ذهن أحمد ابو سليم حيث أشار إلى ذلك بقوله:
” هل كانت اميركا تحاول أن تخلق صورة لها تؤنسها بعد أن أبادت السكان الأصليين للقارة” ص188
إن الموت هو القاسم المشترك الأعظم لكل فصول الرواية، والمجزرة أصبحت تاريخاً ثابتاً في الزمن له ما قبله وما بعده وهي النقطة التي انطلقت منها شهية القتل لدى تلك العصابات فاوغلت في الدم الفلسطيني ولا تزال حتى اليوم، فتلاحقت المجازر وتلاحق الاحتلال والتهجير والقتل والاعتقال في غياب كامل للعالم المتآمر حتى النخاع مع هذه الجريمة.
إن تفاصيل المجزرة التي أوردها الكاتب في الفصل الأول، كفيلة بأن تفتح الجرح الفلسطيني إلى آخره وأن تعيد الصراع إلى نقطة الصفر، وأظنها ستصبح مرجعا لكل باحث يسعى لمعرفة ما جرى لدير ياسين وفي دير ياسين، يوم التاسع من نيسان 1948 فهو كان المخرج والمصور البارع الذي نقل في هذا الفصل أدق تفاصيل الجريمة وأعظمها ببراعة مؤلمة تجعل القارئ حتى وإن كان محايداً يذرف الدمع والسخط على هذا العدو المجرم، من إلقاء الأطفال عن سطوح المباني، الى القتل بدم بارد، الى بقر بطون الحوامل، إلى الإغتصاب الجماعي إلى محاولة حرق الجثث لإخفاء معالم الجريمة، إلى إلقاء الجثث في البئر وتقديم ياسمين زوجة ياسين وأجمل جميلات فلسطين، هدية لكل مجرم ينشط في اخفاء الجثث، لاغتصابها، حتى تكرر ذلك عشرات المرات:
” أربعون جنديا فازوا بها ذلك اليوم منذ العصر حتى منتصف الليل” ص186
وياسين، زوجها الذي عاد منفرداً الى دير ياسين متحديا الموت والعصابات، مربوط إلى شجرة ويراقب ما يجري وينزف دماً وقهرا ولعنات، ولولا أنها استلت مسدس أحد الجنود وانتحرت بإطلاق النار على رأسها، لتكرر اغتصابها مئات بل آلاف المرات.
إن كل ناج من المجزرة نجا بعاهة، إن لم تكن جسدية فهي نفسية وروحية، وياسين الذي قطعوا لسانه ورموه للكلاب وقضى في مستشفى الأمراض العقلية ثلاث سنوات، ذلك المستشفى الذي أقاموه للمفارقة، في دير ياسين، واستخدموا بعضاً من بيوتها المهجورة لذلك، خرج بعاهتين، بعد أن رموه خارج حدود دولتهم المزعومة فراح يبحث عن أهله حتى اهتدى اليهم في مخيم الزرقاء للاجئين.
في الرواية يختلط الواقع في الخيال ويتماهيان حتى لا نستطيع التفريق بينهما، ففيها أسماء حقيقية مثل بهجت أبو غربية، المناضل الصلب وأحد مؤسسي منظمة التحرير الفلسطينية، وأسماء أخرى كثيرة منها الصحفية البريطانية الأصل حنا نوسين، التي دخلت مع عصابات اليهود لتسجيل سبق صحفي، فانتهى بها المطاف إلى جانب ياسين في المصح، ومنها أسماء متخيلة كياسين الخال الذي اوردنا قصته، وياسين الصغير، ابن الأخت، الذي ولد في الواحد من نيسان، قبل المجزرة بثمانية أيام فقط مع توأمه أمين الذي قتله الصهاينة في المجزرة، وأسماء اخرى وردت في الرواية، ولكن كل تلك الأسماء هي لشخصيات حقيقية شهدت على الجريمة أو سبقتها أو تلتها.
إن الموت لم يقتصر على الشهداء فقط، إنما تعداهم إلى الأحياء الناجين، فياسين الصغير يقول ص164 ” أنا ابن المجزرة، اللعنة التي تطاردني منذ ولادتي، ولا تتركني أعيش حياتي أبداً”.
كل من هجروا كانوا أمواتاً بانتظار الحياة، العودة، وكانت أحلامهم تتحطم يوماً بعد يوم، فراهنوا على الزعيم جمال عبد الناصر، ولكنّ النكسة دمرت أحلامهم، بل قتلت بعضهم بالسكتة القلبية، وراهنوا على الثورة الفلسطينية، فجرجرتهم إلى كل بلاد العالم ما عدا فلسطين.
متلازمة دير ياسين، مصطلح اخترعه نهرو، صديق ياسين الصغير في مخيم الزرقاء، ويشير به إلى الحالة النفسية التي لازمت كل من شهد المجزرة أو حتى أولئك الذي سمعوا حكايات الشهود الناجين في ليالي المخيم المظلمة، فالموت غيمة سوداء لم تفارق الفلسطيني منذ ذلك الخروج القسري وحتى اليوم وسيظل حتى يتحقق حلم التحرير.
“الضحية بوصفها ضحية لا يمكن لها أن تنتصر..ذلك هو رأيي..قال بغضب، ربما لم يعجبه كلامي عن السوفييت.
يومذاك خرج بنظرية تسمى متلازمة دير ياسين وأخبرني أنه سيبذل في الأمر مجهودا مضاعفاً كي يثبت صحتها” يقول ياسين الصغير ص200.
” أجرى دراسات على مئتين وخمسين عينة من اللاجئين الذين هاجروا من فلسطين، من قرى مختلفة، وخرج بنتيجة مفادها أن متلازمة دير ياسين شيء موجود لكن احدا لا يلتفت إليه، ولا يعي وجوده.
أعراض المتلازمة هلوسات، وتعرق، وقلق، وذكريات متقطعة، وشعور بالرغبة بمغادرة المكان، وبعض العينات اصابها شعور بالغثيان” ص217
إن استخدام الرقم مئتين وخمسين، وهو عدد شهداء مجزرة دير ياسين، أستخدم مرتين، مرة هنا كعينات بشرية، ومرة في حديث ياسين الصغير عن ياسمين، التي أكلها الذئب، وهو يشاهد صورتها التي تركها خاله ياسين الكبير بعد موته:
” كانت الصورة تتراقص أمامي، تارة أراها ياسمينتين وتارة ثلاث، وتارة تهرب الصورة كلها، وتارة تمتلئ الغرفة بمئتين وخمسين ياسمين”. ص178
وكأن تكرار الرقم على ألسنة أبطال الرواية دليل على أن الراوي أيضا اصيب بهذه المتلازمة.
ولكن، هل المتلازمة خاصة بمجزرة دير ياسين فحسب؟
” لماذا لا نقول متلازمة المجازر؟
• لأن دير ياسين هي الأصل، أتعرف، كثير ممن غادروا قراهم من الفلاحين البسطاء، كانوا قد أصيبوا بمرض دير ياسين”. ص 218
كنت أشعر وأنا أقرأ الرواية أنني أحد شخصياتها، أو على الأقل التقيت بهم جميعا دون أن أعرفهم، أو أكون قد تعرفت إلى بعضهم، فتراب المخيم لا يزال عالقاً على قدمي، لكثرة ما عبرت أزقته في الذهاب والإياب إلى مدرسة الوكالة، كما كنا نطلق عليها، وأبو سليم كذلك، فهل أكون قد استرقت النظر إلى فخذي فتحية كما فعل الصبية في الرواية، او شربت من بولها المخلوط بالعصير والذي أقنعت أهل المخيم أنه دواء من أميركا يشفى جميع الأمراض، أم أكون تعرفت إلى نهرو، الشيوعي الذي كان يدرس الطب رغم فترات الاعتقال الكثيرة التي كانت تمنعه من مواصلة دراسته، أو إلى ياسين الصغير ذاته، وقد أكون رأيت الخال ياسين المقطوع اللسان الذي لازمه الصمت حتى وفاته، وقد أكون صليت صغيراً خلف الجدّ، إمام مسجد الدراويش في الجهة الغربية من المخيم والذي مررت من أمامه آلاف المرات في طريقي إلى سوق الزرقاء التجاري من حي جناعة الملاصق للمخيم وبالعكس، وقد أكون أحد شخصيات الرواية بإسم مستعار، فصورتي هناك في الرواية “والصورة ليست هي الأصل…يعذبني أفلاطون،” كما يقول أحمد ص 235.
إن رواية “يس” لأحمد أبو سليم رواية جاءت في وقتها، فهي ضرورة لإبقاء الجرح مفتوحاً، ذلك الجرح الذي يحاولون دمله ودملنا إلى غير رجعة، وما التساقط الرسمي العربي، إلا دليل على هذه المحاولات، ولكنها لن تتحقق، فياسين الصغير في ختام الرواية، يرمي أثاثه خارج البيت وكذلك يفعل أهل المخيم، بل ويهدم بعضهم بيته، ويقررون العودة مشياً على الأقدام تماماً كما حضروا إلى هنا، وفي هذا إشارة صارخة إلى حقنا في العودة وعدم تنازلنا عنه مهما طال الزمن، في رسالة إلى كل من يكشف عن سوءته من الأنظمة والأفراد، يهرول مطبعاً مع العدو الصهيوني، وإن كانت الأنظمة قد تساقطت، أو هي متساقطة أصلاً، فليس على المثقف ذلك، فهو البوصلة التي تقود العين والقلب إلى حيث تنتظر الغزالة.
ألا لعنة الله على المطبعين، تقول قطرة دم لم تجف بعد، على أرض دير ياسين، وتقول كل ذرة تراب داستها قدم غريبة على أرض فلسطين.