تشهد أغلب المحافظات التونسية حالة من الغليان بلغت حد العصيان المدني بقطاعات واسعة من العمال، خاصة قطاعات التجارة والملابس والنقل وبيع الحلويات والخضار، على خلفية قرار الحكومة إعلان الحجر الشامل طيلة أسبوع كامل نظرا لتفشي الوباء وتسجيل أرقام مفزعة من الوفيات يوميا.
ومنذ دخول الحجر الشامل الأحد حيز التنفيذ تتالت الوقفات الاحتجاجية الرافضة له والمطالبة بمراجعة القرار الحكومي.
وأجمع أغلب المتابعين على أن قرار الحكومة كان متسرعا وكان لا بد من التمهيد له منذ مدة ، وفي ذات الوقت حذرت عدة جهات من تعمد بعض الأطراف السياسية استغلال الوضع والتحريض على الانفلات وإدخال البلاد في الفوضى.
فيما تمسكت الحكومة بقرارها وأعلنت الاثنين أن هناك مسؤولية جزائية لكل من يخرق الحجر الشامل وحذرت من خطورة الوضع الوبائي.
تمرد متوقع
ويرى الباحث في علم الاجتماع معاذ بن نصير في قراءة تحليليةنقلتها صحيفة ـ” عربي21″ أن “حركات التمرد على الحجر الصحي الأخير، منتظرة من الشعب التونسي و الذي يعيش منذ فترة مع حكومة هشام المشيشي والتي لمتعد تحظ بالثقة الشعبية، بل على قمع الاحتجاجات الشعبية بطريقة عنيفة في كانون الثاني/ يناير الماضي، و لعل هذا العنف من أبرز أسباب تنامي اللاثقة بين أغلبية الشعب التونسي و المشيشي”.
ويقول الباحث الاجتماعي “إضافة إلى ذلك علينا الإقرار أن الجانب النفسي و السلوكي قد جعلا من التونسي يتمرد على قرار الحجر الصحي الشامل ، فلقد عاش التونسي أكثر من سنة و هو يراوح بين الحجر و الحظر ، فالشعور بالضغط النفسي و التكبل و الضيق و الحصر بين جدران البيت قد يغذي الإحساس و الشعور بضرورة الحرية و اللاقيود و الخروج إلى الشارع”.
ويتابع معاذ بن نصير مفسرا “علينا الإقرار بأن الأزمة الاقتصادية التي مست أغلب الشعب التونسي قد جعلت من المواطنين يتمردون على الحجر الصحي الشامل و يخرجون إلى مراكز عملهم و محلاتهم لا لشيء إلا لتجاوز المحنة المالية التي يعيشونها منذ السنة الماضية، فالعديد من التونسيين هم من أصحاب المهن الحرة و الحرفيين و الذين يعيشون يومهم بيومهم “.
واعتبر الباحث في علم الاجتماع أن “الشعور باللامسؤولية من طرف الحكومة هو ما جعل من البعض يتحملون مسؤولية ذواتهم و عائلاتهم ، فأغلب التونسيين يعتبرون أنفسهم بدون راعٍ و أن الدولة غير قادرة على رعايتهم المالية و الاجتماعية”.
ويؤكد بن نصير أن “الارتجالية على مستوى قرارات الحكومة هي من بين الاسباب التي ساهمت في تمرد الشعب ، فهذا الشعب يرى بأن الحكومة ليست لها قرارات حكيمة أو تراعي المصلحة العامة”.
وانقسمت المواقف بين مساندة للتحرك الاجتماعي الرافضة للحجر الشامل والمطالبة بإيقافه وبين من تحذر من خطورة الوضع الصحي بالبلاد واعتبار الحجر حلا حتى وإن تأخر وتسبب في صعوبات اقتصادية على الفئات الهشة خاصة، فيما حذرت آراء من استغلال أطراف سياسية للوضع والتحريض على انفلات الأوضاع.
انفلات وتحذيرات
ويقول الكاتب والمحلل السياسي عبد الحميد الجلاصي في قراءة تحليلية خاصة بـ”عرب 21 ” إن ” ما يحصل الآن اعتبره أقرب للانفلات منه للتمرد، هو تعبير من فئات مهنية كثيرة عن عدم قدرتها تحمل الأوضاع، ولا يخفى أنه فيما عدا منتسبي القطاع العمومي فإن غالبية المواطنين من حرفيين وعملة وعملة عرضيين وأصحاب مؤسسات صغرى ومتوسطة وعاطلين يعانون منذ أكثر من خمسة عشرة شهرا”.
واعتبر الباحث أن “إجراءات الحكومة كانت مفاجئة وهي التي سبق أن أعلنت عدم لجوئها للحجر الشامل كما أنها كانت دون إرفاد اجتماعي ودون خطاب اتصالي ناجع وحي ومنسجم ،في الحروب العامل الأهم هو المعنويات والثقة، والمواطنون لا يرون قيادة موحدة ولا سياسة منسجمة بل يرون رؤوس الدولة يحرقون الحجر والسياسات المعلنة ،هناك حالة من الاستهتار نظرا لطول مدة الجائحة و أيضا ضعف الدولة”.
وحذر الكاتب الجلاصي من “الخطير هو أن حالة الانفلات، بما هي رفض سلبي لإجراءات الحكومة يمكن أن تتحول إلى تمرد أي أن تكتسب محتوى سياسيا يستهدف الجميع”.
من جهته أكد الجامعي والباحث زهير إسماعيل أنه “لا خلاف في كون الحكومة لم تخرج من القرارات المرتجلة وغير المدروسة بعناية، ويمثّل قرار الحجر الصحي آخرها ورغم أنّه لا شك في تقدير اللجنة وتوصيتها الصحية العلمية بضرورة الحجر الصحي لكسر نسق الوباء وتطوره المخيف إلا أنّ للقرار الطبي شرطه السياسي وهذا ما كان غائبا من جهة الحكومة”.
وتابع موضحا “كان عليها دراسة شروط نجاح الحجر، والإعلان عنه قبل موعده بأيام وليس قبل ذلك بيومين لتجنب الازدحام بالمساحات العامة والأسواق ومحطات النقل، وكان أيضا لا بد من خطة اتصالية مسبقة تشرح فيه دواعي القرار، وتضمن فيه دخلا أدنى لأصحاب المحلات والتجار والمقاهي والمهن لمدة أسبوع لأنه لا دخل لهم إلا عملهم اليومي”.
ولفت الكاتب إلى أنه “لا يمكن أن ينجح الحجر، ولن ينضبط له الناس وهذا ما حدث في عدة مدن فالأسواق في جلها مفتوحة وما يحدث أشبه بالعصيان المدني المشروع، من جهة أخرى هناك وضع سياسي ومواقف سياسية محسوبة على سعيّد ولواحقه الوظيفية من الكتلة الديمقراطية يختبئ أصحابها وراء ارتباك الحكومة وعجزها عن إنفاذ السياسات فيستثمرون في الوباء، ويشجعون على عدم الالتزام بالحجر بل إنّ سعيّد نفسه اعترض على قرار رئيس الحكومة فيما يخص حظر الجولان في شهر رمضان”.
ونبه إسماعيل بالقول “لكن الأهم من كل هذا هو أنّ رئيس الجمهورية ومحيطه يواصلان استدامة الانسداد السياسي في إطار سياسة التعفين رغم الأزمة المالية والاقتصادية والوضع الصحي الكارثي، وكان للرئيس سعيّد ومحيطه دور في تعطيل مساعي الحكومة في توفير الموارد المالية المستحقة.
وتابع: “والدور الأخطر في إرباك مؤسسات الدولة الأولى ومفاقمة الأزمة السياسية باتجاه غياب كلي للاستقرار السياسي وهو أحد الشروط الأربعة المهمة المطلوبة من قبل صندوق النقد الدولي إلى جانب تخفيض كتلة الأجور ورفع الدعم التدريجي وتوجيهه وإصلاح المؤسسات العمومية ،فالاستقرار السياسي الاجتماعي عامل مهم لنجاح خطة الإصلاح والخروج من الأزمة”.
وأكد زهير اسماعيل إلى ” فشل الحجر الصحي سيضاعف من مخاطر الوباء واستحالة التحكم في نسقه، وسينعكس على الصراع الدائر بين الرئاسة ومحيطها والحكومة وحزامها البرلماني ويعمل سعيّد وكتلته البرلمانية ( التيار والشعب) على توفير أسباب إسقاط الحكومة لاستعادة العهدة وتنفيذ شروط الانقلاب على الدستور والديمقراطية “.