سيرة الأفكار
سليم النجار
سيكون عليك في كل لحظة أثناء القراءة وبعد عدة صفحات من الغوص في العمل والتماهي مع الأفكار، أن تكون يقظًا في استخلاص الأفكار ذوي الصبغة الإنسانية عن أقرانهم ذوي الروح الإلكترونية، حيث يخوض الكاتب تجربة شاقة في تأسيس الأفكار وبث الروح فيما هو مسكوت عنه، ليصبح إنسيًّا يتفاعل مع الإنسان الذي يلعب به أو يلعب معه، حتى يتحول هذا الكائن إلى راوٍ مشارك وعليم، فهو مشارك يحكي عن نفسه، وعليم يحكي عن أفكاره، حيث نجح الكاتب في رواية “همسات من خلف الأسوار” الصادرة عن مهجة القدس-غزة- ٢٠٢١، في بث روح الحياة في الأفكار المحيطة به.
الكاتب الأسير إبراهيم إغبارية، المولود بتاريخ ١٩/ ٢/ ١٩٦٥ في قرية المشيرفة في الداخل المحتل، اعتُقِل في تاريخ ٦/ ٢/ ١٩٩٢ وحُكم عليه بثلاثة مؤبدات وخمسة عشر عامًا، حصل على بكالوريس علوم سياسية وعلاقات دولية من الجامعة العبرية، وبكالوريس تربية إسلامية من جامعة القدس المفتوحة، ومن مؤلفاته “نافذة على المستقبل”، وربما لو أتيح للأفكار أن تتحدث الآن أو تقول كلمة حول الرواية لقالت: شكرًا للكاتب الذي عاملنا بمنطق الروح الإنسانية التي تُرى في كل الموجودات، عاقلة كانت أو غير عاقلة، إخوة وجيران وأصدقاء، ولو أتيح للأفكار أن تتحدث، لعبّرت عن فرحها لما آلت إليه مصائرها داخل العمل، فلقد نجح الكاتب في نقل إرادة الصراع الذي تصنعه علاقات البشر بالكائنات، “ما أسهل أن تكون بلا قضية، أو قضية بلا هوية، إذا أردت أن تسبح في مستنقع الرذيلة، وتجري وراء كل فكر وافد عفن فتعيش عندها حياة الغربان”.
الرواية رحلة نخوض فيها، بل نتورط فيها مع كاتبها في البحث عن ذاته، ونتألّم عليه من شدّة أوجاعه، ومن رهافة مشاعره التي أراد من خلالها الإشارة من بعيد كأسير يرسل إشاراته للحياة، “في بعض المجتمعات والحالات تلقي هذه الأعشاب الإجرامية الضارة تنمو وتتّرع في البيئة الرخوة التي تغفل والفترة طويلة عن اقتلاعها”.
لعبة فنيّة يلعب فيها الكاتب مع القارئ لعبة مزدوجة، فهو يلعب مع أفكاره الباحثة عن الفضيلة، ويلعب مع القارئ بالتماهي مع لعبة الأفكار، “إذا لم تكن في الصدارة وزمام الأمر بيدك صار لغيرك، وبصمة الدنيا بصمته”.
حبكة الرواية حضرت على شكل دوائر متسلسلة في نشرها لأفكار الكاتب، حيث استفاد الكاتب من الحركة السريعة للزمن، لا يحده حد من سرعته غير المتناهية، لذا اعتمد الجمل القصيرة المتتابعة والمتتالية للتعبير عن مواقف يمر بها، “أمي لقد عجز القلم عن الكتابة والعقل عن التفكير فتقبلي مني فائق الأحترام والتقدير”.
رواية “همسات من خلف الأسوار” للكاتب الأسير إبراهيم إغبارية، تعتمد على الجمل السريعة واللقطات القصيرة لتصنع مقطعًا صغيرًا في رواية صغيرة الحجم في كون شديد الاتساع، “ينقسم الفكر الإنساني إلى ثلاثة أقسام: سطحي، عميق، مستنير”.
لسنا هنا بصدد الحديث عن خط زمني محدد، بل تستطيع القول وأنت مطمئن أنّ الرواية كلها لحظة من لحظات الحياة الممتدة، لذا لن تستطيع في تحليل الرواية أن تتحدث عن زمن محدد، الوحدة هي مفتاح الرواية الرئيس، فقد لجأ إليها الكاتب للتعبير عن العالم الذي يتمناه لنفسه، عالم خاص جدًّا، “والآلام تكشف عن الضعف الإنساني وتدفع العاقل دفعًا إلى الوقوف بباب الله، يطلب العافية ويرجو رحمة ربه”.
في النهاية أنت مدعو لعالم مختلف عن العالم الذي نعيش فيه، وإن كان عالم الرواية بالضرورة مستمدًّا من واقعنا الذي نعيشه، لكنه عالم حالم بما ينبغي أن يكون عليه الكون بكل كائناته.