بقلم: د. أسامة المجالي
رواية الدكتور الصيدلي محمد العمري تقرأ من عنوانها الذكي الموفق، العنوان الذي يشي بالكثير، وبتناول الرواية لموضوع مثير منذ اللحظة الأولى.
موضوع العشائر والقبلية بالأردن موضوع شائك ومتعدد الطبقات بأبعاد متنوعة ومتداخلة، لذلك ربما متأثرا بخلفيته العلمية وعمله بالأدوية وأبحاثها على مدار أعوام تناول الروائي هذا الموضوع الجلي والشائك وعرضه على شكل عينة محددة من أربعة شخصيات، سلط عليها الضوء وبدأ بتشريحها والتدقيق في تفاصيلها عبر (١٨٢) صفحة وفترة زمنية تجاوزت الخمسين عاماً.
هذه العينة البشرية تتقاطع حيواتها بشكل درامي متنام ومتصاعد. تُقدم هذه العينة الأردنية من خلال موضوع رئيس، وهو انعدام العدالة في توزيع الوظائف على فئات الشعب لصالح فئة تعتقد أنها فوق القانون وفوق البشر، “إن الخوف هنا ليس من العشيرة وحدها التي تطالب بياناتها بالإصلاح السياسي والاجتماعي بينما يتقاسم أبناءها الوظائف المتبقية في مؤسسات الدولة كميراث شرعي لهم، الخوف هنا مصدره التسليم بتلك الفوضى والعودة إلى ما يسمّى (حقبة ما قبل الدولة)” (العمري ١٠).
قُدمت الشخصيات في الرواية بشكل متوازن دونما إدانة أو تمجيد مبالغ فيه، حيث قام الروائي بعرض تفاعلاتها الداخلية وصراعها مع محيطها ومشاعرها بشكل يتمحور حول جدلية الخير والشر الذي يتصارع منذ الأزل في النفوس البشرية، كل هذا تم عرضه بشكل متقن وفياض.
والعمري بهذا الطرح وتناوله حيوات أبناء العشائر يمثل جيلا شجاعاً من الكتّاب والمثقفين الأردنيين الجدد الذين يدلون بدلائهم في شؤون البلد الهامّة وكيفية إدارتها وتاريخ هذه الإدارة والمآلات التي وصلنا إليها والتي لم تصل إلى هذه النقطة فجأة بل كان ذلك حصيلة إجراءات متتابعة عابرة للسنوات والحكومات على حد سواء.
لقد كانت كل الأحداث الفاصلة بالرواية حوادث عنيفة:
– قتل عطا ابن الشيخ بشكل غامض بعد هروبه لسنوات من بيت العائلة.
– انتحار حجاب بعد إلغاء قرار تعيينه.
– مقتل صقر ابن أخت الوزير الجديد صقر الزفيت.
– دهس شروق خطيبة حجاب بعد مقابلتها للمدير العام: صقر الزفيت، ومواجهته بالتجاوزات التي قام بها لإلغاء قرار تعيين خطيبها. كل ما ذكر يشي – ربما – بالعنف المتصاعد والذي بدأ يهندس حيوات الأردنيين على وقع الإحباط والشعور بالغبن وعدم القدرة على تحصيل الحقوق بالشكل القانوني والمباشر، وهذا يقود إلى فهم كل التحولات العميقة التي يمر بها المجتمع الأردني حيث كانت العشيرة في مرحلة ما قبل الدولة تمس كل مناحي الحياة وكل مكوناتها صبح مساء. القبيلة الزمن الجميل، الشيوخ العظام، العزوة الضاربة في عمق الفيافي والقفار، ثم تبدأ النظرة بالتحول مع مرور الأيام مما هو جميل ومرغوب للبعض إلى ما هو مكروه ومتروك للبعض الآخر ، “عندما يفر عطا أحد ابطال الرواية من أبيه بسبب شعوره بالخزي لاستخدام أبيه نفوذه القبلي وعلاقته ببعض رجال الحكومة لتعيينه وينتزع ذلك التعيين من أحد آخر مستحق وربما له عشرون عاماً ينتظر قبول تعيينه في ديوان الخدمة المدنية” (١٣٤). وهكذا ومع الزمن تتحول القبيلة من حامية مدافعة عن الفرد في مواجهة العالم، إلى عشيرة طاغية متسلطة قادرة على تغيير الحق بالباطل، ويتجلى ذلك مرة أخرى في الموقف مع الصحفية نيفين دواس في ديوان العشيرة وحديث الشيخ أبو ركان شيخ العشيرة مخاطبا إياها “يا بنتي يا نيفين بدناش مشاكل، شايفه الدينا كيف ماشية !! والحي أبقى من الميت “(١٨٠). كان هذا الموقف بحضور والدها المريض المقعد البروفيسور “القبلي” دعاس أفندي والمخاتير الأربعة وهم يتدخلون بشكل ناعم لإنهاء تداعيات الموقف الحساس الذي نشأ بدهس شقيقتها شروق واغتيالها.
هنا لا بد أن أشير إلى أن الرواية فرقت بين العشيرة وهي تتلاشى وتتسرب في شقوق المدينة “عمان” المتسامية المتصاعدة، وبين العشيرة الباحثة عن توازنات عفى عليها الزمن، حيث عملت الدولة ومنذ عهد الاستعمار الأول ثم ما تبعه من عهود وحكومات على تفتيت العشائر وإضعافها وتهميشها واستخدامها ورشوتها ثم إخراجها من محتواها إلى محتوى فلكلوري شكلي مستبد شكلا فارغ محتوىً. وذلك عبر تحويل كلاب الشيخ إلى شيوخ مستنسخة واحدا تلو الآخر .
هنا تتآكل العشيرة لصالح الدولة القطرية القوية التي تصبح “الدولة أولاً” ثم بعد ذلك يتم العمل بنفس المنهجية على تفتيت الدولة وتفكيكها من الداخل بشكل منهجي مقصود عبر تدمير المؤسسات واحدة واحدة والقطاعات قطاعاً قطاعا والجماعات الاجتماعية والنقابية والسياسية والتعليمية التي تشكل بمجموعها البنى الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع بعشائره وفئاته وكل هذا التفتيت لصالح رأس مال متغول وحكومات تتغير ولا يتغير النهج المسيطر وراءها .
“وبعد أن وصل إلى هذه القناعة إنتبه إلى الجحوظ الذي كان ينهك عينيه، انتهى وارتخت عيناه كأنه نعس، الأفكار المبهمة انتهت، انتهت أوهام التوبة “(١١٢).
انتهت أوهام التوبة ، وهنا نصل إلى ختام الرواية التي بدأت بصيغة اعتذارية من المدير العام الفاسد سابقا والوزير الجديد المعيّن في حكومة (هارفرد) بقيادة ابن أحد الرموز الوطنية العريقة وبعد أن تم استيعابه في بنيتها وتطهيره وتنظيفه حتى استطاع تبرير كل الموبقات والنقائص التي ارتكبها على مدار الأعوام.
” في الوقت نفسه كان صقر الريحان هو أول وزير يحضر إجتماعات مجلس رئاسة الوزراء ويتلقى التهاني والتبريكات والتعازي معاً من زملائه الوزراء، ثم كان أول المغادرين اجتماع المجلس إلى حيث بنى صيواناً عملاقاً للعزاء بابن أخته في (الشعيل) قريته جنوب عمان وحضر العزاء سياسيو العهد البائد والراهن واللاحق ممن ينتظرون” (١٨٢).
لا تنتهي الرواية بنهاية سعيدة بل نهاية مفتوحة على مزيد من الخراب والفساد وأنا أيضا اختم بما بدأ به الأستاذ العمري روايته أبيات عرار (شاعر الأردن) وهو يقول:
رجلي كرِجلك
قد شدّت
إلى فلق
هيهات
تحريكنا الساقين
يوهيه !!!