رواية “شجرة العروس” للكاتب نسيم قبها

صدار مجلس الكتّاب والمثقفين العرب ٢٠١٩
بيت الهوية الفلسطينية
قراءة سليم النجار

لعلّ سؤال الهوية ومقوّمات الشخصية الفلسطينية وخصائصها على وجه الخصوص، كان يمثّل السؤال الأكبر الذي واجه كبار المفكّرين والفلاسفة والروائيين العرب والفلسطينيين طوال ما يقارب قرنين من الزمان، ولطالما ارتبط السؤال الأكبر بعدّة أسئلة حيوية أخرى، مثل ماهيّة العلاقة بين الأصالة والمعاصرة، والعلاقة الملتبسة ما بين الشرق والغرب بكل أبعادها السياسية والاجتماعية، بل والميتافيزيقية على المستوى الفلسفي.

ومع تكرار الأسئلة والأجوبة على مر مائتي عام، والتي تراوحت ما بين الدعوة لقبول الآخر بلا تحفّظات، والبعض يرى أن الآخر -الغرب- ممثَّلًا بقوى الاستعمار الذي استهدف الشرق منذ الحروب الصليبية، طامعًا لاستغلاله والتحكّم في مقادير شعوبه دون حق أو وازع أخلاقي أو ديني، ممّا جعل ويجعل الغرب عدوًّا تاريخيًّا.

ولا شك أن رواية “شجرة العروس” للكاتب نسيم قبها تناقش هذه الأفكار بشكل مختلف، حيث يبني الكاتب قوالب سردية لا تخضع لأجوبة جاهزة، ويسعى من خلال بطله الرئيس في الرواية إلى بناء العلاقة بين الطبيعة والمحتل الإسرائيلي المضطرب نفسيًا، إذ يصف قبها الفلسطيني قائلًا: “يصل الشيخ مروان شجرة العروس ولا يعرف كيفية إلقاء التحية على هذا المحتل، فهو لا يتقن اللغة العبرية المستحدثة، ولا يريد أن ينطق بكلمة (شالوم) التي لا تعرف سواها، فأي شالوم هذا وسط غابات الدم التي يفتعلها هؤلاء الصهاينة في مراعي فلسطين الوادعة”.
ومن ملامح تجربة رواية “شجرة العروس”، أو لِنَقُل من أهم خصائها، أنّها تعتمد الأنساق المشكِّلة لعالمها الروائي الدرامي، الذي لا يخلو من ثقل المضمون وأهمية الطرح الفكري، مع ما يحتمله ذلك من انفتاح مجال القراءة واختلاف وجهات التأويل، فتتساوق هذه الأنساق مع رهان جمالي على البعد السينوغرافي وعلى جسد الشخصية الروائية بإمكاناتها الأدائية المتعددة التي تمثّلت بشجرة العروس، “ثلاثون مترًا يرتفع العلم الفلسطيني فوق شجرة العروس في منطقة مرتفعة أصلًا عن سطح البحر، وهنا شجرة العروس تعلن معركتها، وترسل إلى الأرجاء كلها أنها شامخة بوجه الطغاة الذين مرّوا ويمرّون”.

الرواية كتاب الحياة كما قال د.لورانس، فهي تتسع باتساع العالم، وهنا سنجد الكاتب حاضرًا كسارد قادر على تناول الحدث، سنجد أحلامه المحقّقة والمتوقّعة، بل المحرِّضة والموجِّهة لعالمه السردي وقراءته، “تدلّت من أغصان الشجرة مراجيح الأطفال حتى يلعبوا تحتها صغارًا، ليكبروا معها ومع هذا التاريخ والفعل، والذي يسوق للتشبث بالإرث الموروث ولو على حرارة الجمر”.

كما أنّ السارد يتنقّل في سرده كما يتنقّل الشخص بين رحلات متعددة، فيبيّن الوقائع السياسية من منظور مخالف للمتعارَف عليه، “وفي هذا الموت، ستتشابك الجغرافيا المبتورة حديثًا، وتتعانق الأكتاف المعبّدة قصرًا، فيما مضى وقت عصيب”.
الكاتب قبها يلجأ لتقنية الحلم من خلال مشاهد درامية، وهذا الحلم المحفّز نقطة يرتكز عليها الخطاب السردي، “ينطلق عوكش بالثلاثة صوب الكهف المتواري على حافة مقبرة يعبد الشمالية، والذي يغَطّي بابه بصخرة طبيعية، وفتحة شبه دائرية، بقطر نصف متر تقريبًا، تعلو قماش مقوّى وبعض التركشات التي تجلب السرية ما أمكن”.
تماهى عمق المشاهد الأولى في شاعريّة مشهديّة خالصة، على حساب الحركيِّة الدراميِّة وإيقاع الصراع المتنامي، من خلال استنطاق انزياح اللغة الروائية أولًا، ثم تفكيك مفرادتها إلى حركة، أو صوت، أو تركيب تعبيري، “هي لحظات عصيبة تمر على سلمى، وعلى كل الجيران الذين يرقبونها بقلق صاخب، في الوقت الذي تسير به الآلية ببطء شديد، يمر الوقت على سلمى وعائلتها ببطء أكثر، وسط لهفة توقف الزمن ليرحم أم السعيد”.
لقد سعى قبها إلى إعادة كتابة تصوّر جمالي جديد يقوم على الابتعاد عن الصور النمطيّة والأساليب التقليديّة، وينفتح أكثر على الأداء التعبيري الذي يساعد على امتلاك معايير جديدة، وينفذ إلى فضاءات جديدة للتفكير والإدراك، “سقطت الطائرة وطارت الفرحة عاليًا لإنجاز مهمة في غاية التأثير، كانت إشارة الطائرة تعني أن الوصول لشجرة العروس يجب أن يكون بعد ساعة من إطلاق الطائرة، ما يعني أن وقت الوصول هو الثامنة والنصف حتى التاسعة صباحا”.

في “شجرة العروس” ستجد السارد قابضًا على الأحداث، فهو الكاتب بالكامل، هو الذي وجّه كل من ظهر على مسرح الرواية، بحضور الفرحة الشعبية، والتنقّل بين الشخصيات الروائية، واقتطاع حكايات من سياقها التاريخي، وتوظيفها داخل النسيج القصصي تأكيدًا على ما يريد بثّه في خطابه الدلالي، متخطيًّا لعبة شجرة العروس التي مارسها السارد، إلى لعبة يتورط فيها الكبار، يدين فيها المتعاونين مع الأحتلال الإسرائيلي.
رواية “شجرة العروس” تحارب المزيفيِّن لوعي البشر، وتفضح كل ما يغيِّب وعي الإنسان، وتدعو إلى تمرّده..