بقلم: موسى بريزات
وضع الأداء العسكري المقبول الذي أبدته فصائل المقاومة في المواجهة الأخيرة مع قوات الاحتلال هذه الفصائل سيما حماس ليس فقط في المقدمة، بل وفي مقعد القيادة والتحكم في العمل الوطني الفلسطيني، وساعد في ذلك وبشكلٍ كبير التلاحم الرائع الذي تحلى به الفلسطينيون في الضفة الغربية وغزة وداخل الخط الأخضر.
لكن الزمن الذي سيتاح لحماس وحلفائها لتبقى في هذا المقعد غير معلوم؛ فقد يطول أو يقصر بناءا على الكيفية التي ستقود بها هذه الفصائل وخاصة حماس دفة الامور في مرحلة ما بعد المواجهة العسكرية، سواء طالت الهدنة الحالية او قصرت.
فالمهمة التي تنتظر حماس في الأيام القادمة لا تقل صعوبة عن المواجهة العسكرية التي خاضتها وفصائل المقاومة مع هذا العدو الشرس، بل قد تكون مهمة التعامل مع متطلبات ما بعد الحرب أصعب وأكثر تعقيداً.
ففي خدمة آلة الحرب الإسرائيلية آلة سياسة وأمنية وإعلامية لا تقل شراسة وكفاءة وقوة عن الآلة العسكرية ذاتها. كما أن الشعب الفلسطيني ينتظر نهجاً وفلسفة مقاومة سياسية وإعلامية لا تقل فعالية عن آلية المقاومة العسكرية بحيث تكون قادرة على مواجهة الآلة الإسرائيلية الصهيونية \اليهودية السياسية والإعلامية الحالية. فقد يتغير مزاج الأصدقاء وحتى الحلفاء والمتعاطفين والأنصار ضد الفصائل الفلسطينية بمن فيها حماس وبسرعة. فالخصوم السياسيين في الإقليم وفي الساحة الفلسطينية والعربية تحديداً لم يختفوا، بل انحنوا مؤقتا للعاصفة وسرعان ما يعودون بعداوتهم للمقاومة ومعارضتهم ضد الإسلام السياسي وحركة الاخوان المسلمين.
كما أن اسرائيل لن تتوقف عن تطوير وسائل وأدوات السياسية والعسكرية والأمنية والنفسية لمواجهة المقاومة.
ومثل ذلك التعاطف العالمي مع الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية ومعارضة الاحتلال الممتد وطويل الأمد وسياسيات إسرائيل التوسعية والعنصرية. فقد يتراخى وحتى يتلاشى ربما بصورة أسرع من تلك التي تشكل بها خلال المواجهة الأخيرة؛ ثم وإن استمر هذا التعاطف لفترة أطول فسوف تكون قدرته على التعبير عن ذاته محدودة بسبب تحكم الطرف الآخر بكثير من الآليات التي قد يعمل من خلالها لا سيما سياسات الدول الخارجية وعلاقاتها بإسرائيل والمنظمات الدولية المعنية بالأمن والسلم الدوليين وحقوق الانسان والدعم الانساني.
لهذه الاعتبارات وغيرها تعيها حركة المقاومة الإسلامية وفصائل المقاومة الاخرى جيداً لا بد أن تطور هذه الفصائل وبسرعة رؤية غ متقدمة واستراتيجية وخطط عملية تتسم بالعمق، والمرونة، والأهم بالواقعية.
فإلى جانب الاهتمام بمسألة اعادة تعمير وبناء ما دمرته آلة الحرب الإسرائيلية ومعالجة الآثار المادية والانسانية للتدمير الممنهج الذي اوقعته إسرائيل بالبنى التحتية لا بد أن تلتفت حماس وحلفائها الى الإطار الجيوسياسي الأوسع والذي تشكل بفعل الصمود العسكري والتلاحم الوطني اللذين أظهرهما الفلسطينيون في مواجهة الهجمة الصهيونية الشرسة على القدس وسياسات الفصل العنصري الممتدة ضد الفلسطينيين في عموم أرض فلسطين التاريخية.
فالإنجازات التي تحققت عن مختلف المستويات الوطنية والعربية/ الإسلامية والدولية بقدر ما تمثل فرصة لتجذير خيار المقاومة وتعزيز مكانة حركة حماس جماهيرياً فإنها تشكل تحدياً قد يتحول إلى عبء إذا لم تحسن هذه الفصائل وحلفائها إدارته.
والحقيقة أن الأرضية مهيأة لكل الاحتمالات لذلك فإن ما هو مطلوب من حماس وحلفائها هو التحرك بسرعة لبناء مجتمع سياسي فلسطيني تعددي في كل فلسطين ولكل الفلسطينيين بعيداً عن الفئوية والحزبية والانقسامات السياسية والعقدية حتى يكون هذا المجتمع السياسي التعددي هو الحاضنة الدائمة للعمل الوطني الفلسطيني والرافعة القوية النضال الفلسطيني السياسي والعسكري والأمني.
فالركون الى الروح الوطنية المتجذرة لدى فئات الشعب الفلسطيني على اختلاف توجهاتها بمفرده لا يكفي. فلا بديل عن تأطير هذا التمسك بالهوية ومأسسته في نظام سياسيي وطني على أساس متين من التعددية السياسية وما تبع ذلك من الشروع بإقامة مؤسسات حكم ديمقراطية ناجزة وعدم الاكتفاء بما هو قائم: جزر تنظيمية معزولة انتهي بها المطاف الى منافسة بعضها البعض والاختلاف إلى درجة النزاع والكيد لبعضها البعض عبر مسيرة النضال الفلسطيني ضد الحركة الصهيونية.
فالإنجاز الذي تحقق فلسطينياً جاء بالدرجة الأولى بعد التدبير والتخطيط والعمل الأمني والتسليحي الدؤوب جاء نتيجة تولى الفلسطينيون – خاصة جيل الشباب منهم – زمام الأمور في إطار تجسدت فيه :
أولاً: الوحدة الفلسطينية بعيداً عن الانتماءات والارتباطات التنظيمية والولاءات الأيدولوجية والعقدية التي تجتاح الساحة الوطنية الفلسطينية بشكل كبير.
وثانياً: الجمع بين النضال الجماهيري السلمي الجريء والمقاومة بشقيه العسكرية والسياسي وبشكل متوازن بعيداً عن الشعارات الكبيرة وعن وسادة القرارات الدولية التي على أهميتها تبقى بدون قوة تترجمها إلى واقع حبراً على ورق اتكأ عليها العجز العربي اولاً ثم الفلسطينيون لاحقاً لاسيما عملية أوسلو الكارثية.
فعلى حماس ان لا تسعى -ولا أخالها أن تفعل ذلك – إلى أدلجت المجتمع الفلسطيني دينياً او التطلع لان تكون بعقيدتها الفكرية فصيلا وطنيا مهيمنا على أهمية ذلك، بل أن تعمل لتكون رافعة لمهمة بناء المجتمع السياسي التعددي الفلسطيني، وبالتالي تصبح جزءاً من كل، والكل هو الشعب الفلسطيني بكل مكوناته وتياراته وتجمعاته، تكون الكلمة النهائية له يتم بلورتها وتحريرها عبر تعددية سياسية حقيقية.
فهذا درس لم تتعلمه منظمة التحرير الفلسطينية والفصيل الأقوى فيها حركة فتح التي ناضلت لتكون الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. وعندما بلغت ما أرادت خسرت كل شيء ومعها الشعب الفلسطيني حيث وقعت في الفخ الإسرائيلي عبر اتفاق اوسلو من اجل الحفاظ على التنظيم.
فإقصاء الآخرين واحتكار الحقيقة ثم التمسك ببقاء الحركة، أو التنظيم او الحزب او الحكم لشخص بأي ثمن حد التضحية بحقوق الشعب الوطنية هو مقتل يجب أن تتلافاه حماس وحلفاؤها. هذا الدرس الأول في تجربة النظام السياسي العربي المعاصر العاجز والفاشل والذي لم تفلت من أي دولة عربية اصلى ان لا تغفل عنه قيادة حماس.
أما الركيزة الثانية لإستراتيجية فاعلة ورؤية ثابتة هي كيفية التعامل مع مسألة الحل السياسي للنزاع الفلسطيني – الإسرائيلي.
فأي نزاع عسكري لا بد أن يكون له بعدا سياسيا أولاً وأن ينتهي إلى طاولة المفاوضات ثانيا، حتى لو سحق طرف الطرف الآخر، واعتقد أن هذه النتيجة غير واردة في المدى المنظور على الأقل في هذا النزاع.
لذلك من المتوقع ان تصيغ حماس رؤيتها وتصورها لكيفية حل النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي بعيداً عن اوسلوا ومن يمثل هذا النهج، ولكن لابد من التحرك بسرعة والتحوط أن تقفز مجموعة اوسلوا لملء الفراغ السياسي الناجم عن غياب الاتصالات السياسية بين هذه الحركة وحلفاؤها من جهة والأطراف المنخرطة فيما يعرف بعملية السلام، إذ لا تستطيع حماس ولا يجب ان تتجاهل سواء في مشروعها السياسي او في استراتيجيتها هذه المحطة لان مثل ذلك العمل سيكلفها كثيرا واوله الإنجازات التي تحققت نتيجة مقاومتها الباسلة وتلاحم الشعب الفلسطيني وصموده.
فالمتوقع ألا ترفض حماس فكرة السلام، بل تسعى لإعادة تعريفها ووضعها على المسار الصحيح والمتوازن. وهنا قد تدرك حماس أن السعي نحو السلام ليس ملكاً لها لوحدها، بل للشعب الفلسطيني، ولذلك عليها أن تعمل – ولا أعطي أي طرف دروساً في التفاوض – انطلاقاً مما تقرره أغلبية الشعب الفلسطيني في إطار المجتمع السياسي الديمقراطي التي عليها السعي وبشكل جاد وحثيث العمل بكل ما تملك من إمكانات لإقامته. ويسعفها في هذا الصدد أن تسعى لتسوية سياسية وليس لحل تاريخي للنزاع الفلسطيني -الإسرائيلي وعلى أساس أن الطرفين الفلسطيني واليهودي (مع الفارق في مشروعية الموقفين) يجب أن يقرا بمبدأ الحل الوسط المتوازن؛ اذ لا يمكن الحديث عن حل عادل في ضوء الصدام المحتدم بين الادعاءات الصهيونية المدعومة بالقوة والحق الفلسطيني الذي يطمح ويعمل للوصول الى شكل من توازن القوة مع القوة المحتلة، او قبول السلام المفروض بالمقابل.
ومبرر هذا الحل الوسط المتوازن هو وجود يهود ولو جزء بسيط سيستمرون يدعون لإقامة إسرائيل الكبرى ويعتبرون – ولو بهتاناً وزورا – ان فلسطين أرض الميعاد مثلما أن من حق الفلسطيني أن يتوقع ويتمسك بحقه في فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر وتطبيقا كاملاً للقرار الأممي رقم (194م) والذي ينص صراحه على حق العودة.
وسوف يبدو موقف حماس وطنيا وبالتالي منطقياً إذا ما تمت صياغته في أطر وطنية ديمقراطية شاملة وليس حزبية تنظيمية محدودة وعلى أساس الحل الوسط المتوازن، والذي يشمل:
- إنهاء الاحتلال الاسرائيلي والانسحاب التام من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967م ، بما فيها القدس .
- إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة تامة على الأراضي الفلسطينية التي سيتم إخلاؤها وتكون عاصمتها القدس التارخية بحدودها المعروفة .
- عدم الاعتراف بيهودية الدولة التي يطالب بها نتنياهو واليمين الصهيوني المتطرف .
- عدم التخلي عن حق العودة باعتباره حقا شخصيا لكل فلسطيني وأن يتم تأجيل تطبيقه مرحلياً في إطار الحل التاريخي للنزاع.
- عدم توقيع معاهدة السلام والاكتفاء بإنهاء حالة الحرب وربط التطبيع وإنهاء النزاع بتطبيق حق العودة وما جاء في نص قرار الأمم المتحدة رقم (194) .
- عدم التخلي عن ملاحقة القادة الإسرائيليين أمام المحكمة الجنائية الدولية.
أخيراً إن مثل هذا التصور يجب ألا يكون روية حماس، بل موقف الشعب الفلسطيني وأن تكون إجابة حماس للسؤال حول مفهومها للسلام مع إسرائيل والذي سيطرح عليها بإلحاح وبسوء نية احيانا في الايام المقبلة أن الشعب الفلسطيني هو من يملك الإجابة على هذا السؤال وليس أي فصيل فلسطيني .