أحمد العبد
طوفان بشري كان يَنتظر تلك اللحظة التي يصل فيها الأطفال الأسرى والنساء الأسيرات إلى بلدة بيتونيا قرب رام الله، لعناقهم وللبكاء كثيراً، في لحظة الحرّية الأولى التي انتزعتها المقاومة انتزاعاً من فم الغول.
والغول الإسرائيلي، الذي حاول، حتى اللحظة الأخيرة، التنغيص على الأسرى وعائلاتهم، بتأخير الإفراج عنهم حتى تعمّ العتمة، وقبلها الاعتداء عليهم أثناء نقلهم بالحافلات – حتى إن أحد الأطفال أصيب بكسر في يده اضطرّت الطواقم الطبية على إثره لنقله إلى المستشفى، فيما نُقلت الأسيرة فاطمة شاهين إلى مجمّع فلسطين الطبي لإجراء بعض الفحوصات بعد وعكة صحية -، لم ينجح في ذلك؛ إذ كانت الحشود الجماهيرية في استقبالهم. وكانت قوات الاحتلال قمعت عائلات الأسرى والمواطنين الذين احتشدوا أمام سجن «عوفر» غرب رام الله، بإطلاق قنابل الغاز والرصاص الحيّ والمطاطي صوبهم، ما أدّى إلى إصابة طفلَين وشاب ومصوّر صحافي، نُقلوا على إثرها إلى المستشفى.
وبقدر ما كانت فرحة الحرية واضحة، فهي أيضاً بدت منقوصة وممزوجة بالوجع؛ إذ إن الرسالة التي سعى جميع الأسرى إلى إيصالها، هي شكر المقاومة، التي أوفت بوعدها وعهدها، ولم تتخلّ عنهم، بل إنها فرضت حريتهم على العدو فرضاً، والتأكيد في الوقت نفسه أنه لا فرحة مكتملة في القلب طالما ظلّ أسير واحد في السجون. واستغلّت الأسيرات الحضور الإعلامي الكبير، لتسليط الضوء على معاناتهن في سجون الاحتلال، وتحديداً منذ بدء العدوان على غزة، وحكينَ عن أوضاع الأسيرات المتبقّيات في السجون، وحلمهنّ الدائم بنَيْل الحرّية. وكانت سلطات الاحتلال قد أفرجت مرغمةً، أمس، عن 39 أسيراً فلسطينياً، بينهم 24 امرأة و15 طفلاً، ضمن الدفعة الأولى من صفقة التبادل مع المقاومة، التي أفرجت بدورها عن 24 أسيراً لديها، 13 منهم إسرائيليون، والبقية من العمال التايلنديين. ووصلت حافلة ومركبات تابعة للصليب الأحمر تحمل أغلب المعتقلين المُفرج عنهم من سجن «عوفر» إلى بلدية بيتونيا غرب رام الله، في حين جرى الإفراج عن الأسيرات المقدسيّات، وعددهن 6، من معتقل «المسكوبية» في القدس المحتلّة، حيث كانت عائلاتهنّ في استقبالهنّ.
إلّا أن مظاهر الاحتفال غابت في القدس، وسط انتشار وتأهّب كبيريْن لقوات الاحتلال في مختلف أحياء المدينة. وداهمت تلك القوات منازل الأسيرات في بلدتَي جبل المكبر وبيت حنينا، واشترطت على عائلاتهن تحت التهديد، عدم الاحتفال أو تنظيم استقبال لبناتهنّ لدى الإفراج عنهنّ، كما أبقت على عناصرها أمام منازل المحرّرات. أيضاً، اقتحم جنود العدو منزل الأسيرة أماني الحشيم قبل الإفراج عنها، وأطلقوا الرصاص وقنابل الغاز السام المُسيل للدموع في أثناء ذلك. كما اقتحموا منزل عائلة الأسيرة زينة عبده، وحذّروا العائلة من إجراء أيّ لقاء صحافي، فيما هدّدوا عائلة الأسيرة فاطمة شاهين في بيت لحم بتهديدات مماثلة. وكانت قوات الاحتلال استدعت، منذ ساعات الصباح، أفراداً من عائلات الأسيرات المقدسيات إلى غرف التحقيق في المسكوبية، حيث صودرت هواتفهم، وجرى تحذيرهم من مغبّة الاحتفال والإدلاء بالتصريحات الإعلامية.
أما في بيتونيا، فقد صدحت أصوات الأسيرات ومستقبليهن بتأييد المقاومة. وفي هذا الإطار، برزت تصريحات إيمان نافع، زوجة الأسير نائل البرغوثي، وهو عميد الأسرى الفلسطينيين، التي قالت اثناء استقبال الأسيرات: «جئنا اليوم لنقول شكراً للمقاومة التي قدّمت هذه التضحيات الكبيرة». وأضافت أن نائل الذي قضى 44 عاماً في السجن، وأُفرج عنه في صفقة «وفاء الأحرار»، وأعاد الاحتلال اعتقاله، يعاني من ظروف صعبة جدّاً، كما بقيّة الأسرى والأسيرات، متابعةً «أننا جئنا اليوم لنقول إن المطلوب هو تحقيق وقف إطلاق نار دائم في غزة، وانتزاع الحرية لكلّ فلسطين من الاحتلال». والجدير ذكره، هنا، أن الأسيرة المقدسية، مرح باكير، كانت من أوليات الأسيرات المُفرج عنهنّ في القدس المحتلة، حيث اعتبرت، في تصريحات مقتضبة، أنه «من الصعب جداً الشعور بالحرية مقابل دماء الشهداء في غزة، وفي ظلّ التضحيات الكبيرة لأهلي في القطاع»، وذلك قبل أن تقتحم قوات الاحتلال الإسرائيلي منزلها.
من جهتها، حيّت الأسيرة المحرَّرة، فاطمة شاهين، التي جرى نقلها إلى المستشفى، «أهل غزة الذين صبروا وقدّموا الدماء من أجل حرية جميع الأسرى، وكلّنا ثقة بالمقاومة التي تعمل على تحرير كامل الأسرى وتبييض السجون»، فيما قالت الأسيرة فلسطين نجم: «الحمد لله، شعور لا يوصف، وفرحتنا منقوصة لتضحيات غزة وللأسرى المحكومين بالمؤبّدات، وبإذن الله كتائب القسام ستبيّض كلّ السجون». وأكّدت الأسيرة المحرَّرة، حنان البرغوثي (أم عناد)، التي جرى اعتقالها خلال العدوان على غزة، وهي شقيقة القائدَين الأسير نائل البرغوثي والراحل عمر البرغوثي (أبو عاصف)، بدورها، أن «لقاءنا في الجنة يا أطفال غزة. الله يحيّي المقاومة. علّمتوا على الاحتلال يا أهل غزة»، مضيفة: «إحنا رافعين راسنا بالمقاومة وبأهل غزة، رؤوسنا عالية بفضل الله والقسام ومحمد الضيف».
كذلك، أكّدت الأسيرة المحرَّرة، سارة العبد الله، من مدينة نابلس، والتي أدّت سجدة الشكر لحظة الإفراج عنها، أنها «فخورة بحماس، وبحب غزة كثير، وفخورة بمحمد الضيف والسنوار، لأنهم الوحيدين اللي وقفوا معنا، شكراً لكم». وعبّرت الأسيرة المُفرج عنها، أسيل منير، من جهتها، عن فرحتها بالحرية، بالقول: «نحن أقوى منهم»، مستعرضةً أوضاع الأسيرات في سجون الاحتلال، والتي باتت سيئة جدّاً، في ظلّ حالة القمع والتنكيل الواسعة بحقّهن منذ السابع من أكتوبر. أمّا الأسيرة رغد الفني فرأت، في كلمة لها، أن «الفرحة منقوصة، لأن خلفنا في السجون أسيرات كثيرات يعشن في ظروف صعبة للغاية، كما أن تحررنا كان لقاء دم غزير، ولذلك مشاعر الأسيرات مختلطة»، متوجّهةً إلى المقاومة وقائدها بالقول: «صدق الوعد يا محمد ضيف»؛ وهو الهتاف الذي كان يردّده مئات الشبان الذين استقبلوا الأسرى، إلى جانب هتافَي: «شكراً شكراً يا غزة»، و»الشعب يريد كتائب القسام»، في ما بدا بمثابة استفتاء شعبي لصالح المقاومة.
ومع انطواء اليوم الأول من الهدنة وعملية التبادل، تتّجه الأنظار، اليوم، إلى القائمة الثانية من الأسرى المنويّ الإفراج عنهم، وتحديداً الأسيرة إسراء الجعابيص، التي يبدو خروجها استثنائياً نظراً إلى حالتها الصحية الخاصة.