” مقدِّمة”
مفردة “السؤال” وحدها تحيل إلى الحرية المطلقة في تقليب الأفكار على وجوهها، ربّما هدمها من الأساس والبناء على أنقاضها، كما أنَّها من أسس مواجهة المجازر وحرب الإبادة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني في غزّة والضّفّة، من قِبَل الاحتلال الاسرائيلي٠
في هذا الملف نلتقي بعدد من الكُتّاب العرب الذين يُقدِّمون لنا رؤاهم حول ماذا يحدث في غزّة؟
وما يستدعي الدرس والتمحيص والنقاش والجدال والنقد، لأنّ الأشياء تحيا بالدرس وإعادة الفهم، وتموت بالحفظ والتلقين.
الأستاذ والفنان المسرحي علي أبو ياسين من غزة يكتب لنا من زاويته “ماذا يحدث غزة”؟
لمى (قصة حقيقية)
علي أبو ياسين/غزّة-فلسطين
تقصف الدبابات المنازل يجب أن تغادر المنزل فورا لأنّ أهداف الدبابات غير دقيقة. وتدمّر بشكل عشوائي وتقتل بدون سابق إنذار. الدبابات وحش مجنون ينطلق ليمزق أجساد المباني بلا عقل. هذا الحوار كان داخل رأس “أبو أحمد” حينما كان يحمل حقيبة ملابسه وشنطة أوراقه الجاهزة أصلا في كلّ منزل في غزّة والتي تحتوي على البطاقة الشخصية والجواز وشهادة الميلاد وعقد المنزل والشهادات الجامعية وأهم شيء كرت التموين. لأنّه من خلاله يثبت بأنّه لاجئ ويحقّ له التسجيل في المدارس والحصول على الإعانات الغذائية وخلافه من أغطية وفرشات. خرج من المنزل مسرعا بصحبة زوجته وأبنائه وأمّه المُقعدة على كرسيها المتحرّك وابنه وزوجته وأبناء ابنه. أخذوا يركضون في الشارع وأصوات القذائف تصمّ الآذان والحجارة تتطاير من حولهم وكأنها حِمم من لهيب. ظلّوا يركضون ويحاولون الاحتماء ببعضهم البعض ويدعون الله أن يساعدهم بالخروج من جهنم التي تحيط بهم من كلّ زاوية. كانوا خلال الركض كثيرا ما يتعثرون وينهضون مرّات ومرّات. مرّت الدقائق كأنّها ساعات و”أبو أحمد” يقود والدته بكرسيها وفي كلّ ثانية يتفقّد عائلته وأهم شيء ألا يكون أحدهم قد استشهد. فالإصابات لا تهم الآن.. يعيد تفحصهم هل وقع أحد ولا يستطيع النهوض هل تأخر أحد. كان رأسه بألف عين وألف عقل. ظلّوا يركضون حتى وجدوا أنفسهم خارج منطقة القصف. تنفسوا قليلا ثمّ أكملوا السير تجاه شارع صلاح الدين ليتمكنوا من الوصول إلى المنطقة الآمنة بعد وادي غزة أي إلى الجنوب. كانت مشاهد الهجرة في مسلسل التغريبة الفلسطينية للمهاجرين وهم يحملون حوائجهم على ظهورهم ويسيرون ببطء السلحفاة والموسيقى الحزينة ترافق المشهد تتكرّر داخل رأس “أبو أحمد” ولكن ما أغاظه أنه لا يمكن أن تكون الهجرة بهذه السرعة وهذا الرعب. لقد اجتزنا مسافة ٦٠٠٠ آلاف متر بلمح البصر لا نعلم كيف. دعنا من التغريبة ومشاهدها ولنكمل الطريق. لقد اقتربنا من الدبابات. ولكن من أين أتي فجأة كل هذا الطوفان من البشر من حولنا. كان لا بد للمخرج حاتم علي أن يستدعي كومبارس أكثر لمشاهد الهجرة. أجاب نفسه. أنا في إيش وانت بإيش دعك من التغريبة وانتبه لحالك ونكبتك.. الظاهر عليك انهبلت.
تعلم أنّك حينما تقترب من الدبابات أن الكواد كابتر تطير فوق الرؤوس تصورهم ومن تشتبه به تطلق علية النار فورا. وأهم شيء ممنوع التوقف بتاتا وممنوع إنزال اليدين يجب أن تظلّ الأيادي مرفوعة وأنت تحمل الحقائب. وفي حال سقطت من يدك حقيبة وانحنيت لكي تلتقطها، يطلق عليك النار فورا من الكواد كابتر وتقتل. عاد يخاطب عائلته هيا سيروا تقدّموا! نعم الجميع موجودون أمسكوا ببعضكم البعض ابقوا متلاصقين.. الدنيا مثل يوم القيامة تقدموا.. إياكم والتوقّف.. انتبهوا بعد دقائق سوف تفتح لنا الدبابة ممرّا يجب أن نمرّ بسرعة.. يا إلهي وكأنّ عدد سكان غزة ١٠٠ مليون وليس مليونين. هيا بنا! البوابة فتحت لنا الطريق أسرعوا. وفجأة نادى الجندي من الدبابة. أنت يا من تسحب المرأة على الكرسي المتحرك أترك الكرسي مكانه. أجاب في نفسه: حاضر حاضر! وهو يحمل والدته وأخذ يركض بها وجميعهم يركضون حتى تجاوز الدبابة. ولكن المسافة إلى الجنوب بعيدة. كيف سأحمل أمي كل تلك المسافة؟ يجب أن أعود وآخذ الكرسي!! قرار قد يكلفني حياتي ولكن لا بأس! فإمّا أمي أو أموت دونها.. وضع أمه على الأرض وعاد راكضا باتّجاه الكرسي وهو يلفظ الشهادة ويستعدّ للموت في أية لحظة وأخيرا وصل الكرسي حمله وعاد مسرعا قبل أن تغلق الدبابة الطريق. وفي اللحظة الاخيرة تجاوز الدبابة قفزا قبل الإغلاق وأخذوا يركضون من جديد، وصوت الجندي ينادي ممنوع التوقف ممنوع التوقف، وعاد يتفقّد عائلته، ولكنّه هذه المرّة لم يجد ابنته لمى ابنة الثماني سنوات بينهم!! أخذ يصرخ بهم أين لمى؟ أين لمى؟ لم يجبه أحد.. يجب أن أعود أجابه ابنه أحمد. أنت مجنون؟ سوف يطلقون عليك النار. التوقّف ممنوع ما بالك بالعودة. العودة تعني موت محتم! تقدّم يا أبي.. وأخذ يسحبه عنوة وبقوة إلى الأمام و”أبو أحمد” يردِّد: استعوضت فيكي الله يا لمى! استعوضت فيكي الله يا صغيرتي يا حبيبتي!
كان يسير تجاه الجنوب، وطوال الطريق لم تغب صور لمى عن باله. تذكّر يوم أن أذَّن في أذنيها حينما التقطها لحظة مولدها، وأول مرّة خطت خطواتها الأولى وكيف كان يساعدها على المشي، وكم من أغانٍ وقصص الأطفال غناها لها قبل النوم، واليوم الأول التي حملت فيه شنطتها الصغيرة لتذهب إلى الروضة وكانت كالفراشة الملونة البريئة. آه يا لمى يا قطعة القلب ومهجة الفؤاد! آآه يا ابنتي الحبيبة!
أفاق على صوت زوجته وهي تقول له لقد وصلنا إلى مدخل مخيم النصيرات دعنا ننتظر هنا على شارع صلاح الدين. علّ أحدهم يكون قد اصطحب لمى وجاء بها. أجابها “أبو أحمد” حسنا دعونا نجلس هنا وننتظر. ظلوا جالسين على الشارع. وفجأة انتبه لوجوه الناس المتجهمة والمغطاة بالغبار وكلّ حزن وغضب وعبث الكون على وجوههم. ولكن حينما نظر إلى عائلته وجد وجوههم أشد بؤسا وتجهما. وأخذ يردِّد: استعوضت بك الله يا لمى!!
ظلّوا جالسين لمدّة ثلاث ساعات وفجأة انشق البحر من بين طوفان البشر وكانت لمى تسير مع رجل يصطحب أطفاله وحينما رأت عائلتها ركضت مسرعة إلى والدتها وأخذ الجميع يبكون ويشكرون الرجل على عودتها ثم أكملوا طريقهم إلى خانيونس. الآن لمى وعائلتها يمكثون في مبنى الصناعة في خانيونس التابع لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين. في انتظار عودتهم إلى منزلهم المدمَّر في مخيم الشاطئ.