حماس وخطر الوقوف في منتصف الطريق

ذكرنا في المقال السابق ضرورة أن تأخذ حركة حماس زمام حركة التحرر الوطني الفلسطيني بيدها، وألا تتردد، ومعها عدد من القوى الممثلة في المنظمة وأخرى غير ممثلة فيها، وغيرهم، والتي تتفق جميعها على خط المقاومة والنضال في مواجهة خط التسوية والاستسلام، الفلسطيني والعربي. وقد تنوعت الآراء وتعددت بين معارض لمبدأ الحديث في هذا الموضوع أصلا بينما المعركة لم تنتهي بعد (وكأن الحرب ليست امتدادا للسياسة)، وبين من اعتبر الطروحات قفز في الهواء سيؤدي إلى إضعاف البيت الفلسطيني وتشرذمه في وقت نحتاج فيه إلى الوحدة الداخلية (وكأن السلطة وسياساتها واختطاف المنظمة وتهميشها والانقسام والتفرد بالقرار والتنسيق الأمني وإلغاء الانتخابات والفساد المالي والإداري كانت عوامل تعزز الوحدة الداخلية) وبين من أيد الطروحات من حيث المبدأ لكن اعترض على الآلية الموصوفة لاستنقاذ منظمة التحرير (ولم يقدم آلية بديلة) وبين من أيد الطروحات لكن بوضعها خارج إطار منظمة التحرير الفلسطينية التي انتهت – حسب رأيه – وينبغي تجاوزها لشيء بديل وجديد (أي هدم المعبد وتصفير عداد النضال سياسيا والبدء من جديد وكأننا لم ننجز شيئا على مدار قرن من الزمان)، وبين من أيد المقترح جملة وتفصيلا داعيا للتعجيل بتنفيذه.

وكان هناك رؤية لافتة – من أوساط حركة فتح – تنطلق من اعتبار السابع من أكتوبر نصرا حقيقيا ينبغي البناء عليه، لكنها تخشى من تعريض بقية “البناء” الذي تم في الضفة الغربية للخطر والانهيار، وهو الأمر الأهم للعدو الصهيوني من أي ترتيب سينتج في غزة، فالصراع الحقيقي – حسب وجهة النظر هذه – هو في الضفة والقدس وعليهما، وهو صراع قائم الآن وأكثر خطورة إن تمكن الصهاينة من هدم “الكيانية” الفلسطينية على ضعفها وهزالتها في الضفة، لينطلق بسرعة نحو خططه في تنفيذ صفقة القرن ونسختها المعدلة وفق نظرية سموتريش وأداتها جيش بن غفير الذي يجري تكوينه من المستوطنين المسلحين.

وبناء على ما يرشح من تسريبات، فإن حركة حماس متمسكة بشرط وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات، قبل البدء بأي محادثات سياسية وقبل الحديث بشأن صفقة تبادل الأسرى، وبأن الحركة منفتحة على الحوار الفلسطيني الفلسطيني بشأن منظمة التحرير على قاعدة عدم المغالبة، وأنها غير متمسكة بحكم غزة إذا ما تم التوافق في إطار المنظمة على رؤية فلسطينية جامعة، مرورا بمرحلة انتقالية – وحكومة “خاصة” – تؤدي إلى انتخابات.

لابد من تذكير الكل الفلسطيني وحركة حماس – على وجه الخصوص – وحلفائها المحتملين بالتحديات والابتزازات القادمة وهي كما يلي:

1- وفق المنظور الصهيوني، وبعد السابع من أكتوبر، فإن تجربة إبقاء حماس في غزة، في السلطة، والتعامل معها، وفق هدنة قصيرة أو طويلة الأمد، والسماح بإدخال المعونات النقدية، وإصدار التصاريح العمالية، قد انتهت.

2- إن الصهاينة يرفضون الصيغ السياسية التي تُنهي حالة الفصل بين الضفة الغربية وغزة، ومنها رفض أي دور للسلطة الفلسطينية أو المنظمة في وضع ما بعد الحرب على غزة.

3- في أي صيغة صهيونية – أمريكية، وأوروبية، لن يتم التنازل عن المطلب الصهيوني بتوفير منظومة أو ترتيبات أمنية جديدة، مثل الدعوة لنزع سلاح المقاومة (في ظل استحالة تدمير حماس)، والدعوة للسيطرة على شريط أمني أو إنشاء محطات أمنية داخل قطاع غزة لحماية مستوطنات غلاف غزة، وما يترتب على ذلك من تبعات.

4- إن الصهاينة لن يتخلوا بسهولة – في أي سيناريو – عن هدفهم الجوهري وهو تهجير أكبر عدد ممكن من المواطنين خارج غزة، ولا يهمهم إلى أين، وآخر همهم أن يكون إلى سيناء، لأن التدمير الممنهج الذي تم في غزة والذي لا ينبغي الاستهانة به، سيتم استخدامه كوسيلة للتهجير “الاختياري” الذي لا يرفضه الغرب والعرب.

5- إن ملف إعادة الإعمار سيتم استخدامه بكل قوة لتدعيم هدف التهجير “الاختياري” البطيء، وذلك عبر إعاقة إعادة الإعمار بكل الوسائل، وإطالة أمده لسنوات، تجعل الناس مجبرة على المغادرة لأسباب إنسانية (لانعدام السكن والخدمات الصحية والتعليمية، وتوقف الاقتصاد وندرة فرص العمل). وبالتالي فإن خطر التهجير سيظل قائما وسيتطلب وقفه توفر الكثير من العوامل التي سيتم منعها.

وللأسف الشديد جدا، يعلم الأخوة في حماس وقوى المقاومة الأخرى، أن قيادة السلطة الفلسطينية ليست بوارد الدفاع عنهم أو عن مواقفهم بأي شكل من الأشكال، وهي التي تنصلت من طوفان الأقصى وقواه، ونأت بنفسها عنه كأنه شُبهة. ولن تتنازل تلك القيادة عن أية شروط كانت تضعها في السابق لإنجاز المصالحة، ولن تتعامل مع حماس كفصيل مناضل حقق نصرا استراتيجيا وستعمل على حرمانه من أي ميزة لنصره. بل لن يطول الوقت قبل أن تنقلب عليه ذات القيادة لتعلن عبثية معركة طوفان الأقصى ولتحمل حماس مسؤولية ما جرى غزة من مجازر جماعية وتدمير، وستؤيد في حينه – أثناء معركة الإعمار – شروط إعادة الإعمار المرتبطة باستئصال حكم حماس.

وأيضا، تعلم حماس وقوى المقاومة أن الدول العربية الرئيسية المتداخلة في الشأن الفلسطيني عموما والعدوان على غزة، ذات مواقف منخفضة السقوف جدا، فهم ركزوا على ادخال المساعدات دون أن يكسروا الحصار وفق قراراتهم، وطالبوا بوقف إطلاق النار دون أن يرفعوا ولو عصا من خشب، ورفضوا التهجير الى مصر والأردن دون أن يرفضوه إلى أمكان أخرى، وجل ما رفعوه هو مطلب حل الدولتين الذي تخلوا عنه فعليا بعد أن عجزوا عن فرضه. ومعلوم أن تلك الدول ليست بوارد دعم حماس، بل إن بعضها قد أدان فِعْلَها، وبعضها الآخر يحظرها ويرفض اللقاء معها، والبعض يتمنى القضاء عليها وعلى مقاومتها.

والخلاصة، التي لا تتوقف عن تقديم نفسها لقوى التحرر الوطني، هي أن معسكر الأعداء لا يقتنع بل يخسر على أرض المعركة، وأن الفئات المستفيدة والإصلاحية ستصطف مع قوى الخارج عند كل مفترق، وإن الوصول معها لتسويات لا يمكن تحصينها والمراكمة عليها مضيعة للجهد والوقت.

لذلك كله، تخطئ حركة حماس وقوى المقاومة إذا وقفت في منتصف الطريق ولم تكمله، وإذا ظنت أن لها مقاعد محجوزة في أي ترتيبات قادمة. إن المقاعد الوحيدة المحجوزة بجدارة لحركة حماس ولقوى المقاومة هي في قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وإن ما عجز الكيان عن تحقيقه في الحرب لا ينبغي أن يحصل عليه في السياسة.

وائل ملالحه – باحث