” مقدِّمة”
مفردة “السؤال” وحدها تحيل إلى الحرية المطلقة في تقليب الأفكار على وجوهها، ربّما هدمها من الأساس والبناء على أنقاضها، كما أنَّها من أسس مواجهة المجازر وحرب الإبادة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني في غزّة والضّفّة، من قِبَل الاحتلال الإسرائيلي٠
في هذا الملف نلتقي بعدد من الكُتّاب العرب الذين يُقدِّمون لنا رؤاهم حول ماذا يحدث في غزّة؟
وما يستدعي الدرس والتمحيص والنقاش والجدال والنقد، لأنّ الأشياء تحيا بالدرس وإعادة الفهم، وتموت بالحفظ والتلقين٠
مهند طلال الأخرس من الأردن يكتب لنا من زاويته “ماذا يحدث غزة”؟
حين استشهد المستشفى ونام ضمير العالم
مهند طلال الاخرس/الأردن
طائرات أمريكية فوق سماء فلسطين تحمل الموت وعلم إسرائيل، تخرق السماء وتجوب الأجواء، تبحث عن غايتها في حرب إبادة تستهدف القتل والتهجير…
تُشمّ رائحة الموت المنبعثة من صواريخها وقنابلها التي تطلقها عن قرب.
تصيب نيرانُها بيوتَ السّكان الآمنين فيسقط الأطفال والنساء والشيوخ وتدمَّر الشوارع وتهدَّم البيوت على رؤوس أصحابها في مشهد دامٍ يراه كلّ سكان المعمورة.
يهرع كلّ من سَلِمَ لإنقاذ من يصرخون من تحت أكوام الرّكام.. ينجو من لم تستطع قنابل الاحتلال الوصول إليه ويصعد إلى السّماء العدد الأكبر…
بالعادة تُهرع سيارات الإسعاف لنجدة المنكوبين … لكن هذه المرّة لم تتحرّك سيارات الإسعاف؟!
كان القصف قد استهدفها وقتل طواقمَها… يُهرع المواطنون ومن تبقى على قيد الحياة لنجدة من كتبت لهم النجاة أو أخطأتهم صواريخ الاحتلال، يبحثون بين الركام عن أنفاس مخنوقة وسط غبار كثيف وبصيص أمل.. تتعالى الأصوات وتبدأ الصرخات، ثمّة أنين يأتي ويروح… إنّه تحتنا، هنا لا بل هناك! افسحوا المجال أزيلوا الركام من هنا! جاء صوت من بعيد …احذروا وانتبهوا لعلّ الطائرات تعود من جديد!!
يردّ آخر لا مجال للانتظار ثمّة أصوات تنبعث من تحت الركام.. تكاثرت الجموع وتقدمت أكثر وأكثر اعتلّت أكوام الركام تبحث عن مصدر الانين..
صاح أحدهم هنا هنا، أنا اسمعهم بوضوح!
تتشارك الأيدي الكثيرة بإزاحة الركام تتّضح الصورة أكثر وينقشع الغبار..
أولادي.. أولادي!!
هنا هنا، إنّها امرأة!! صاح أحد المنجدين..
ساعدوني يا جماعة.
تخرج امرأة من تحت اكوم الركام وهي تصيح أولادي أولادي! وتأبى أن تُسعف قبل البحث عن أطفالها..
تُحمَل على الأكتاف وهي تتمتم:
أسمع صراخ أحدهم أرجوكم أعيدوني.. دعوني أرجع إليهم، دعوني أبحث عنهم أو أموت بينهم..
تستجيب الجموع لرغبات الأمّ الثكلى وصياحها..
تسكب على رأسها رشّات من المياه علّها تزيل شيئا من الغبار الذي يملؤها من رأسها لأخمص قدميها.. تظهر ملامح وجهها المهشم والجريح.. يتعرّف عليها أحدهم، ولا يهمّك يا أم عايد كلّنا ولادك..
تصيح في وجهه: أولادي! أولادي تحت الردم وكمان حجابي!!
يخلع أحدهم قميصه ويغطّي به رأسها..
عادت أم عايد تضرب على صدرها وتصرخ: أولادي أولادي…!!!
انصاعت الجموع لصرخاتها فأسندتها لأقرب جدار تبقّى وبقيت يدها تشير إلى الركام وهي تصرخ أولادي أولادي..!!
وجد المنقذون أحدهم.. كان أنينه مسموعا والغبار قد انقشع.. وصلت يد المنجدين له، هلّلوا وكبروا..
نهضت الأم الثكلى مستندةً على الجدار وأكتاف من يحيطون بها.. وسارت أقدامها المترنِّحة باتّجاه الركام… تلقّفت ابنها وحوطته بنوبات من البكاء وصرخات من العويل.. كان مصابا والدماء تنزف منه وبالكاد تُعرف ملامحه.. أوصلها أحدهم إلى سيّارة هُرعت للنّجدة وأوصلهم إلى أقرب مستشفى [المعمداني] وهناك سلمته أمّه لأطباء الطوارئ وطلبوا منها الانتظار …
بعد دقائق وخرج الطبيب محاولا طمأنتها وتهدئة روعها قائلا: هناك أمل، لكننا بحاجة إلى بعض الوقت… إن شاء الله الأمور تكون بخير…
هدأ بالها لبرهة ثمّ سرعان ما علت صرخاتها مجدّدا: أولادي أولادي…!! وانطلقت باتّجاه بوابة المستشفى حتّى وجدت السيارة التي أوصلتها.. لحقت بها بعض النسوة يهدّئن من روعها. كانت تمسك برقبة صاحب السيارة وهي تصرخ أولادي أولادي…!
طلب منها صاحب السيارة بمساعدة النسوة المتحلِّقات التحلّي بالصبر وأن تهدِّئ من روعها..
بقيت المرأة تصيح أولادي أولادي…!!
لوهلة اعتقد الجميع أنّ المرأة تهذي أو أصابها مسّ أو صرع من هول ما حدث…!
بعض النسوة التقطن حروف الكلمات المبعثرة المنطلقة من فم المرأة الثكلى، وجمعن أشلاء الكلمات والتقطن سرّ ذلك الهذيان.
-لديها أطفال آخرين ما زالوا تحت الركام، تريد الذهاب إليهم…!
يُهرع صاحب السيارة التي زَجّت بنفسها فيها وهي تندب وتولول.. وسريعا انطلقت السيارة عائدة نحو مكان القصف حيث منزل أم عايد المهدّم.. غادرت أم عايد وتركت خلفها صدى وجعها ودعوات النسوة التي تغصّ وتمتلئ بهنّ ساحات المستشفى المعمداني في غزّة…
وصلت أم عايد مدخل حارتها حيث المربع السكني المهدّم، ترجّلت من السيّارة وسارت بأقدامها العارية فوق أكوام الركام، كان المسعفون والمواطنون ورجال الدفاع المدني قد انتشلوا كافة أفراد الأسرة من تحت الأنقاض.. كانوا كلهم شهداء…!
دارت الدنيا في عيون أم عايد حتى غابت عن الوعي.. وحين استفاقت.. سألت عن طفلها الذي أودعته مستشفى المعمداني… لم يُجبها أحد، صرخت وولولت وهي تقول: أولادي أولادي.. وحين لم يُجبها أحد.. أُغشي عليها مجدّدا وحين استفاقت ثانية علمت بهول ما جرى؟؟
كان طائرات الاحتلال قد قصفت مستشفى المعمداني حيث أودعت طفلها الناجي الوحيد للعلاج.. كان طفلها قد صعدت روحه إلى السماء برفقة خمسمائة آخرين جُلّهم من الأطفال الذين لاذوا بساحات المستشفى والكنيسة المحاذية طلبا للأمن والأمان، وللاحتماء من رائحة الموت المنتشرة في سماء غزّة على يد طائرات الموت الإسرائيلية الحُبلى دائما بالصواريخ والقنابل والفسفور الأبيض والحقد الأسود والموت الزؤام.
إحدى الكاميرات التلفزيونية التقطت اللحظة وعلى وقع المجزرة سألت أمّ عايد عمّا جرى، فقالت:
“كان هناك أمل صغير، هذا ما أخبرني به الطبيب عن طفلي، ذهبت لأطمئن على من بقي من أبنائي تحت الأنقاض، وجدت أرواحهم قد فاضت إلى السماء…وعدت، وحين عدت لم أجد لا طفلي، ولا الطبيب، ولا المستشفى… كان الجميع قد استشهد.”!!
استشهد المستشفى… استشهد المستشفى.. كلمات أخذت طريقها على لسان أم عائد وملأ صداها أرجاء المكان ووصل مداها مسامع كلّ انسان؛ لكن بقيت الأكفّ فارغة يمتلئ بها ماء الوجه وقلّة الحيلة ولسان حالها يقول:
“لقد أسمعت لو ناديت حياّ … ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو نار نفخت بها أضاءت … ولكن أنت تنفخ في رماد”
كانت الكاميرا لازالت تجول وتصور وترصد ما يحدث ويجري في ساحة المستشفى من هرج ومرج وصيحات التكبير وموجات الغضب المختلط بالبكاء والعويل… كانت الأشلاء مبعثرة، جلّها لأطفال بعمر الورد لم يبقَ منهم إلا رائحةَ الموت وبعض الأشلاء وعمود غبار يتصاعد نحو السماء.. لعلّه يحمل أرواحهم أو يشكي أمرهم إلى ربّ السّماء..
استشهد المستشفى… استشهد المستشفى كلمات جرت على لسان تلك المرأة الثكلى وبقي صداها عالقا بالأثير علّها تهزّ ضمير العالم أو تلامس نخوة المعتصم… فلا هي هزّت ضمير العالم ولا لامست نخوة المعتصم، جلّ ما حدث جرح جديد في الجسد الفلسطيني، ونُدبة أخرى على جبين الإنسانية، ووصمة عار أخرى تضاف إلى سيرة الاحتلال الملطَّخة بالدّم والحافلة أصلا بقاموس لا يعجز أن يستولد كلّ يوم اسما وفعلا جديدا لمجزرة أو محرقة أو حرب إبادة شاملة.
استشهد المستشفى…استشهد المستشفى… كلمات خرجت من فم ام عائد وصل مداها سائر ارجاء الارض وطاف وعاد حيث أم عايد… وحين عاد كان صوت أمّ عايد قد ابتلعته المجزرة.
رحل عايد وإخوته وصوت أمّه وكلّ من ساقه الرصاص والهلع إلى المستشفى… ففاضت الجثث وطافت الشظايا وغرقت الأحلام في ساحة المستشفى [المعمداني] ونام العالم كما ينام دائما بعد كلّ مجزرة.