لم تكن تلك الخطوات المتعبة على شاطئ البحر مجرّد عودةٍ إلى البيوت،
بل كانت عودة الروح إلى الجسد، والذاكرة إلى التراب، والنبض إلى قلبٍ رفض أن يتوقف.
على امتداد الأفق، تتلو غزة صلاتها الأخيرة، وتنهض من تحت الركام كمن يُعيد ترتيب ملامحه أمام مرآةٍ مكسورة،
وتقول للعالم بصوتٍ خافتٍ كالأذان:
“ما زلت هنا… وما زالت الأرض تعرفني بالاسم.”
ذاك الطريق الطويل الذي يشقّ الرمل كجرحٍ في خاصرة البحر لم يكن ممراً فحسب،
بل كان سيرة وطنٍ يسير على قدميه، يبحث عن ذاته بين الغياب والرماد.
رجالٌ يحملون ما تبقّى من البيوت، نساءٌ يدفنَّ وجوههن في وجعٍ صامت،
وأطفالٌ يلوّحون للبحر كأنهم يودّعون طفولتهم الأخيرة.
الجميع يمضي، والجميع يعود، في مشهدٍ يختصر قرنًا من الصمود الفلسطيني،
حيث العودة ليست قرارًا سياسيًا… بل فطرةٌ تسري في الدم.
في تلك المسافة الضيّقة بين الرمل والماء،
سارت غزة بثوبها الملطّخ بالدخان،
كأمٍّ تبحث عن أولادها في زحام القيامة.
تتعكّز على وجعها وتبتسم، لأن في عينيها يقينًا يقول:
“حتى لو أُحرِقتُ كل يوم… سأولد من جديد.”
هي لا تعرف الهزيمة، لأن الهزيمة تحتاج إلى إذعان،
وغزة لم تُذعن يومًا، ولم تعرف سوى أن تنهض — كلّ مرةٍ من تحت الغبار أكثر نقاءً وأكثر عنادًا.
كلّ بيتٍ مهدوم هو قصيدةٌ جديدة في دفتر الخلود،
وكلّ طفلٍ عائدٍ هو شاهدٌ على أن الحقّ، مهما أُبعد، يعرف طريق الرجوع.
وقف إطلاق النار؟
كلمةٌ صغيرة لا تُغني عن الحقيقة الكبرى: أن الحرب ما زالت في الذاكرة،
لكنّ الناس يعودون، لأن العودة ليست إلى الحجارة، بل إلى الكرامة.
ولأن الغياب عن الأرض خيانةٌ للنبض،
ولأن هذا التراب لا يقبل الفراغ، فهو يُنبت أهله من جديد، كلّ مرة، رغم الموت.
يا غزة…
أيتها الجريحة التي تتوضأ بدموعها وتصلّي على حافة البحر،
يا أيقونة التاريخ وملح العصور،
يا نداءً يخرج من تحت الركام ليقول للعالم إن الإنسان فيكِ لا يُقهر.
سيكتب التاريخ أن شعبك سار يومًا على جراحه ولم يتوقف،
وأنكِ — رغم القصف والحصار والخذلان — كنتِ أجمل ما تبقّى من معنى الوطن