فوز ممداني… جيل “زد” يقلب معادلات السياسة الأمريكية

الشعب نيوز:-
كتب اللواء المتقاعد د. موسى العجلوني –
في زلزال سياسي غير مسبوق، فاز المرشح التقدمي زهران ممداني بمنصب عمدة مدينة نيويورك، متقدماً بفارق واضح على منافسه المدعوم من الحزب الديمقراطي التقليدي ومن نخبة رجال الأعمال واللوبي اليهودي النافذ في المدينة. وجاء هذا الفوز رغم التحذيرات الصريحة التي أطلقها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من مغبة انتخاب ممداني، واصفاً إياه بأنه “تهديد لقيم أمريكا”.
لكن هذا الفوز، الذي وُصف بأنه “زلزال انتخابي”، لم يكن نتاج موقفٍ عابر من قضية دولية، بل ثمرة تحول عميق في وعي الناخب الأمريكي الجديد، خصوصاً بين جيل “زد” والطبقات العاملة والمهمشة التي وجدت في ممداني صوتاً يعبر عن معاناتها اليومية وآمالها المستقبلية.
برنامج شعبي يخاطب الحاجات الحقيقية
جاء خطاب ممداني الانتخابي مغايراً للسائد، إذ لم يرتكز على الشعارات التقليدية حول الأمن والاستثمار، بل انطلق من الواقع المعيشي الصعب الذي يعيشه سكان نيويورك. وعد بتوسيع برامج الإسكان الميسّر في مدينة تعاني من أعلى معدلات الإيجار في البلاد، وتوفير خدمات مواصلات عامة مجانية جزئياً للفئات محدودة الدخل، وتخصيص دور حضانة مجانية للعاملين والعاملات، إلى جانب إطلاق برامج تدريب وتشغيل للشباب في مجالات الاقتصاد الأخضر والتقنية .واختصر حملته الإنتخابية بهدف واحد بسيط وهو” ان يصحوسكان نيويورك كل يوم ويجدوا مدينتهم أفضل من اليوم السابق”.
بهذه الرؤية، استطاع ممداني أن يكسر الصورة النمطية للسياسي الأمريكي المرتبط بالمصالح الكبرى، وأن يعيد توجيه النقاش العام نحو احتياجات الإنسان اليومية وكرامته المعيشية، بعيداً عن هيمنة رأس المال والوعود الانتخابية الفارغة.
جيل “زد”… المحرك الجديد للسياسة الأمريكية
أظهرت الإحصاءات أن نحو 75% من الناخبين الشباب من جيل “زد” صوّتوا لصالح ممداني، وهو ما يعكس صعود قوة انتخابية جديدة تؤمن بالعدالة الاجتماعية والإقتصادية والسياسية، وترفض الاحتكار المالي والسياسي والإعلامي للطبقات التقليدية. جيل وُلد في عالم مترابط رقمياً، يرى العدالة قيمة عالمية واحدة لا يمكن تجزئتها:
فكما يرفض الظلم في شوارع نيويورك، يرفضه في غزة، وكما يطالب بحق السكن والعمل، يطالب أيضاً بإنهاء معاناة الشعوب المقهورة في كل مكان.
تحدٍ لمراكز النفوذ ومؤسسات الدولة العميقة
لم يكن طريق ممداني مفروشاً بالورود. فقد واجه مقاومة عنيفة من النخب السياسية والمالية والمتحكمين في مؤسسات الدولة العميقة التي رأت في برنامجه تهديداً لمصالحها. واعتبره خصومه “ثورياً يسعى لتفكيك النظام من الداخل”، لأنه دعا إلى إعادة توزيع الموارد بعدالة، ومحاسبة الشركات الكبرى التي تستفيد من إعفاءات ضريبية ضخمة بينما تتقلص الخدمات العامة. كما صوّت لصالحه كثير من العاملين في القطاعات العامة، وسكان الأحياء المهمشة، والمهاجرين، الذين رأوا فيه مرشحاً يمثلهم بصدق، ويجسد نموذج السياسي الذي يواجه المؤسسة التقليدية لا الذي يخدمها.
رؤية عالمية للعدالة
ورغم أن موقف ممداني الصريح من العدوان الإسرائيلي على غزة وتصريحه الشهير بأنه “سيعتقل بنيامين نتنياهو إذا زار نيويورك تنفيذاً لقرارات محكمة العدل الدولية” لفت الأنظار وعرّضه لهجوم قاسٍ، إلا أن ما ميّز خطابه هو شموليته واتساقه؛ فهو لم يتحدث عن فلسطين بمعزل عن غيرها، بل وضعها ضمن منظومة أوسع من الدفاع عن المظلومين والمعذبين في كل أنحاء العالم، من اللاجئين إلى ضحايا الحروب والمجاعات، مؤكداً أن القيم الأمريكية الحقيقية لا تُقاس بالتحالفات العسكرية بل بقدرتها على نصرة الإنسان أياً كان مكانه.
من نيويورك إلى واشنطن… بداية زمن جديد
يشكّل فوز ممداني مؤشراً على تبدّل في المزاج السياسي الأمريكي، حيث تتراجع سطوة اللوبيات المالية والإعلامية أمام قوة جديدة تتشكل من الشباب والطبقات الكادحة، قوة تؤمن بالعدالة الاجتماعية في الداخل والعدالة الإنسانية في الخارج. ولعل الأهم أن هذه الانتخابات أظهرت أن السياسة الأمريكية تدخل مرحلة ما بعد “الولاءات المطلقة”، لتبدأ عصر الضمير الجمعي العالمي الذي يربط بين الإصلاح المحلي والموقف الأخلاقي من قضايا العالم.
ختاما، فوز ممداني لم يكن انتصاراً لشخص، بل لرؤية جديدة لأمريكا — رؤية لا تنفصل فيها العدالة الاجتماعية عن العدالة الإنسانية، ولا تتناقض فيها قيم الكرامة في نيويورك مع تلك في غزة أو الخرطوم أو كيب تاون. إنه إعلان عن ولادة جيل سياسي جديد، يرى أن طريق الإصلاح في الداخل الأمريكي لا يمر عبر وول ستريت، بل عبر صوت الإنسان البسيط الذي يريد بيتاً، عملاً، وعدالة في هذا العالم المرهق بالظلم.
قد يعجبك ايضا