وسط البلد صورة فورية ملونة ..سعيد الصالحي

229
الشعب نيوز:-

لا يجذبني في وسط البلد ما يجذب الناس من مطاعم وأكشاك وحلويات وبسطات بقدر ما يجذبني شريط ذكرياتي في بعض شوارعها وأزقتها وأرصفتها، فكلما زرت وسط البلد وتجولت فيها أبدأ باجترار تلك المعالم التي كنت أعرفها صغيرا ولم تعد موجودة الان، وعلى الفور أبدأ باعادة الحياة لهذه الأماكن وأخرجها دون عناء من ذاكرتي، وأعيد نحتها ورسمها بكل تفاصيلها الدقيقة في أماكنها التاريخية، فها هو المصور الفوتوغرافي الذي يتخذ من رصيف الجامع الحسيني وحائطه الحجري استوديو ومعمل لتحميض ونشر وعرض صور الزبائن بالابيض والاسود، وكانت هذه الصور تستخدم غالبا في المعاملات الرسمية، أما إذا كنت ممن يرتادون وسط البلد للتسوق أو التنزه أو لحضور أحد أفلام دور السينما التي كانت تتنافس على احتلال الواجهات المميزة لعرض دعايات افلامها فغالبا ما كنت ستفضل التقاط صورة فورية ملونة وانت تتوسط باقة كبيرة من الورود البلاستيكية الحمراء والتي تتموضع في قلب الجزيرة الوسطية لشارع الملك فيصل، وبعد أن يعد المصور للعدد ثلاثة وتسمع صوت أحد المارة الذي يود أن يجاملك ويشاركك هذه اللحظات التاريخية وهو يبتسم لك ويقول “تشيز”، تخرج الصورة الملونة من رحم آلة التصوير لتوثق لحظة من حياتك ستتكلم عنها في المستقبل لساعات وساعات.

كنت أسير في شارع الملك فيصل وقد تآكلت جزيرته الترابية البسيطة ولم أعد أسمع الأغنيات المنبعثة من محلات أشرطة الكاسيت والتي كانت تتبارى في تشغيل الاغاني لتلفت انتباه المارة، واختفى كذلك المصور ولم أعد أشاهد دعايات أفلام دور العرض، فلماذا لم تمنحني سينمات عمان التاريخية فرصة حضور فلم فيها من البلكون أو البنوار؟ لقد أصبحت أمتلك ثمن التذكرة اليوم، وصار بإمكاني أيضا أن أحضر آخر حفلة وأن أخرج من السينما بوقت متأخر، لقد أصبحت رجلا ولكن السينما لم تنتظرني، فعلى ما يبدو أنني قد تأخرت كثيرا عليها وهي ملت من الانتظار.

ومنذ أن فوّت على نفسي فرصة تجربة الأشياء في وقتها، وكنت أظن أنها لن تطير أو أنني سأجربها وأستمتع بها في أي وقت إلى أن مرت الأيام ودارت الأيام وأصبحت أعيش قصة الأمس في أطلال خيالي، فقد عزمت أن لا أؤخر أي تجربة تحكمها الجغرافيا ويلوي ذراعها الزمن.

ولأن يومنا هذا سيصبح ذكريات بعد ساعات ولأني أخاف أن يتغير كل ما في وسط البلد أو يختفي أو يتحول وسط البلد إلى وسط بلد حديث وآخر موضة كالبوليفرد من قبل مهووسي الحداثة، فانني أرجو أمانة عمان ألا تطور ذكرياتنا في عمان بل عليها أن ترممها وتحافظ عليها فقط، فعمان بأسواقها وأزقتها وسلاسل أدراجها القديمة تحمل من الذكريات واللحظات لمعظمنا ما يجعلنا نحتمل أزمة السير وندرة مواقف السيارات وبعض الروائح المزعجة التي تتسرب خلسة من سيلنا المسقوف، فوسط البلد هو وسط الذكريات فلنعمل معا لنحافظ على نظافة وآصالة ذكرياتنا.

قد يعجبك ايضا