
حضارة غزة
الشعب نيوز:-
عبدالهادي راجي المجالي
… في الكيان الصهيوني , وكلما حدثت انتخابات …يوظفون دمنا من اجل الفوز …
العرب وحدهم من يتحكم دمهم , في صناديق الاقتراع الإسرائيلية , ودمهم وحدهم ..يساعد (الديمقراطيين )في أمريكا , ويساهم في هزيمة الجمهوريين …والمشكلة أننا نتوسط في الأحداث …نتوسط لدى الكيان الصهيوني , ونعتبر التهدئة نصرا لدبلوماسيتنا الرائعة كأمة ..
والعرب وحدهم , من يكون دمهم تجربة لطائرات (إف 35) الجديدة , وبعد المعركة سيقدم قائد سلاح الجو الإسرائيلي تقييما لأداء الطائرة في غزة للصانع الأمريكي , سيقول أن اصاباتها كانت دقيقة ..وأنها قتلت الكثير من شعبنا وأراقت الكثير من دمنا …
في الجانب الاخر من المعركة , يعرف أهل غزة ذلك ..يعرفون أن دمهم يوظف للصندوق الإنتخابي , ويعرف ابن مخيم الشاطيء ذلك ..(وح م اس) تعرف ذلك والج هاد تعرف ذلك وكل الفصائل الفلسطينية تدرك الأمر …ولكن أحدا في العالم العربي لم يسأل نفسه هل وصل الرخص بدمنا لهذا الحد ؟
يذبحني قهري , وتذبحني نشرات الأخبار …وأكثر ما يذبحني في المشهد , هو أن الإعلام يركز على تحويل مسار الطائرات الإسرائيلية إلى الشمال من (تل ابيب) بالمقابل تحويل جسد طفلة رضيعة إلى أشلاء لا يستفز أحدا …لو كانت هذه الطفلة أمريكية , لاهتز العالم لأجلها ..لكنها طفلة ليس لها علاقة بشيء ..كانت على باب الشقة المجاورة , حين قصفوا منزل الشهيد الج ع ب ري ..كانت تلعب , وتبحث عن مسرب للهواء ..كي يخلصها من حر غزة , وبدلا من نسمة عليلة تمر على خدها مر البارود على جسدها …
حين حملوها لمستقرها الأخير , أكثر ما ابكاني هو أن والدها حملها بين يديه , وتدخل رجل اخر ومشى بجانب الوالد كي يحمل رأسها ..حتى لاينفصل عن الجسد , راقبوا مشهد الجنازة ..كانوا (6) رجال فقط …وكان الرجل الذي يحمل الرأس , خائفا من سقوطه , ظل يحمله بحرص وعناية …لم تحصل على تابوت , ولم تحصل على جنازة ملائمة ..حتى الكفن الذي لفوه بها ..كان غطاء سرير المستشفى ..وكنت ألمح جسدها النحيل الصغير الجميل وكيف التوى بين أكف الوالد , يبدو أن الصاروخ قد حطم كل العظام فيه …
لم يسأل العالم عن هذه الطفلة , بل سألوا عن الاتصالات الدبلوماسية ….لم يسألوا عن اسمها عن لون شعرها , عن صفها …لم يسألوا عن اخر وجبة تناولتها , أو اخر كلمة نطقتها …أو اخر نظرة أو اخر قبلة تلقتها …
كم نحتاج من الشهداء يا غزة حتى يصرخ التراب فيك …يكفي , كم نحتاج من دم حتى يستفز هذا العالم ؟ ..كم نحتاج من جسد محطم ومن اشلاء الأطفال , من دموع الأمهات ..ومن تفجر الدماء في الشرايين حتى نصحوا ..
كل الحضارات بعد حضارة غزة كذب …لا تقولوا لي الأهرامات والفراعنة , حضارة غزة قدمت للعالم درسا ..مفاده أن الفقراء في هذا العالم ستبقى كلمتهم الأعلى ويدهم الطولى , لا تخبروني عن السومريين ..ولا عن الأنباط , ولا تخبروني على الأندلس …كل تلك الحضارات أمام حضارة مخيم الشاطيء ..ومخيم الرمال صغيرة , على الأقل حضارة المخيمات في غزة صنعت الصواريخ …جعلت الرمل يقاتل والبحر يقاتل والنوارس تقاتل وجعلت الموت كذبة ..هل يوجد حضارة في العالم لم تخف من الموت , حضارة غزة …لم ولن تخف .
لا تخبروني عن الأنباط وأنهم نحتوا مدينة في الحجر …في غزة وحدها عن دون غيرها , نحتوا من الصبر منصة للصواريخ , ونحت شيخ طاعن في السن ..مصاب بالعجز الكلي ولا يتحرك فيه غير اللسان وهو الشيخ المجاهد (احمد ياسين) ..نحت من المستحيل قوة مقاتلة …لايجرؤ جيش في الدنيا على الإقتراب منها …احمد ياسين بكتاب الله وبالصبر المتعاظم وبالإرادة ,خلق من الفقراء جبهة ومن الصفيح صاروخا ..ومن الدعاء عقيدة للمقاتل ودواء للبلوى …
…بعد ألف عام سيكتب التاريخ عن حضارة فلسطينية , ولدت على قطعة صغيرة من الأرض اسمها غزة …حضارة تجاوزت كل الحضارات , حضارة وحدت الفقراء كلهم , وزرعت الإرادة في القلوب …وانتصرت .
لو كان لدى اسرائيل ذرة من حياء أو خجل , لسحقت كل طبقتها السياسية …ذاك أن الصفيح في غزة هزم اعتى قوة مالية وعسكرية وتامرية …في العالم .
ذات يوم – واقسم على ذلك – ذات يوم قريب وليس بالبعيد أبدا ..سيزحف جنرالات اسرائيل وسيزحف شعبها التائه الممزق , وعصاباتها واحزابها ..سيزحفون على اقدامهم وارجلهم صوب غزة كي تصفح …لكنها لن تصفح بل ستعاقب وسيكون عقابها كبيرا …
لو كان قدر لي أن اضيف على مناهج العالم العربي , وبالتحديد ..في كتب الحضارة العربية والإسلامية …لو قدر لي أن أضيف شيئا فسأضيف كتيبا خاصا يتحدث عن حضارة اسمها غزة …كي يفهم الجيل الحالي معنى فلسطين …ومعنى أن يولد الطفل فلسطينيا .