سؤال الهوية في “فاطمة حتى التعب” للقاص هاني الهندي
الشعب نيوز:-
بقلم: أُسَيْد الحوتري
لعل من أبرز العناصر التي جعلت من المجموعة القصصية “فاطمة حتى التعب” مجموعة مميزة تستحق القراءة والدراسة هو شخصية فاطمة التي حملت المجموعة اسمها، وتكرر هذا الاسم سبع مرات على غلاف الكتاب الخلفي، ومرتين في الإهداء، واثني عشر مرة في كلمة المؤلف، وجاءت قصة “فاطمة حتى التعب” في منتصف المجموعة القصصية ليأكد الكاتب من هذا الحضور القوي أن فاطمة هي بداية القصص ومنتصفها ومنتهاها، إنها أم البدايات وأم النهايات. كما لعبت فاطمة دورا رئيسا في (15) قصة من أصل (27)، وهذا ما لم تجر عليه العادة في المجموعات القصصية التي تتكون في الغالب من قصص منوعة لكل منها مكانها وزمانها وأحداثها وشخصياتها الخاصة وغير المرتبطة بقصص المجموعة الأخرى. فمن هي فاطمة؟ وما سبب ظهورها المتكرر؟ وما الأدوار التي لعبتها؟ وكيف أثر وجودها على تجنيس هذا العمل الأدبي؟ أسئلة تطرح نفسها بقوة، وتبحث عن إجابات.
يبدو أن شخصية فاطمة تشابه إلى حد كبير شخصية ظريف الطول الفلسطينية، ذلك الشاب الذي يقال أن اسمه “عليان بعل” والذي أحب “عنات”، وبعد معركة مع العدو الصهيوني، اختفى ظريف ولكنه لم يمت. أقسمَ رجال أنهم شاهدوه يقاتل في يَعْبَد مع عز الدّين القسام، وفي يافا، وفي بور سعيد مع جول جمال، وشرقي النهر في معركة الكرامة، وفي بيروت، وقيل أن آخر ظهور له كان في غزة، يقصف العدو ويعود إلى الخندق. وهكذا تحول ظريف إلى أيقونة شعبية، وأصبح ظريف الطول مجازا وطنيا يمثل كل رجل فلسطيني مقاوم. هذا بالضبط ما عمل القاص هاني الهندي عليه عندما نحت شخصية فاطمة، فهي النسخة النسوية عن ظريف الطول، إنها “ظريفةُ الطول” الفلسطينية التي تمثل كل النساء الفلسطينيات الصامدات. لم يبق الهندي هذا الأمر سرا بل ذكره في الأهداء فقال: “إلى فاطمة كل النساء الطيبات، إلى فاطمة يتمدد بداخلها الوطن، أعشقها وتعشقني حتى التعب”. هنا يؤكد الهندي أن فاطمة هي كل النساء الفلسطينيات الطيبات العاشقات. ولم يتوقف توضيح هوية فاطمة عند الإهداء فحسب، بل تجاوزه القاص إلى كلمة المؤلف التي جاءت تحت عنوان “فاطمة” والتي في العادة تكون تحت عنوان “المقدمة” أو “توطئة” أو “كلمة المؤلف” وكأنّ القاص يريد أن يؤكد للقارئ أن فاطمة هي القصة، وهي “كلمة المؤلف”، وما للمؤلف من كلمة سواها! يذكر القاص في كلمته أن “فاطمة بنت القرية الريفية التي تعوّدت أن تقبّل الأرض قبل شروق الشمس…فاطمة بنت المدينة التي ما بهرتها مبانيها المرتفعة…فاطمة بنت البادية التي يعشقها القمر وتهواها النجوم…فاطمة السيف الذي لا يُغمد في زمن السيوف المثلومة”. مرة أخرى يقدم القاص فاطمة كمجاز للمرأة الفلسطينية العاشقة المعشوقة الطيبة المقاوِمة.
لعل القاص هاني الهندي قد استعار اسم فاطمة من شخصية فاطمة التي رسمها الفنان الشهيد ناجي العلي. فهي الشخصية الأساسية والثابتة التي تمثل المرأة الفلسطينية، إنها الفلسطينية العربية المكافحة والصابرة، إنها المرأة التي لا تهادن، صاحبة الرؤيا الواضحة، أنها المرأة الوطن.
ولاسم فاطمة دلالات عدة وطنية وقومية ودينية، فكثير من النساء الفلسطينيات تحمل هذا الاسم وهنا تتجلى الدلالة الوطنية، وهذا ينطبق أيضا على النساء العربيات، وهنا الدلالة القومية؛ ولأنه اسم ابنة الرسول الكريم محمد عليه السلام، وزوجة الخليفة علي بن أبي طالب فلهذا الاسم أيضا بعدٌ ديني جليّ. وهكذا يخاطب اسم فاطمة وقضيتها ربع سكان العالم.
أما الأدوار التي لعبتها فاطمة في هذه المجموعة القصصية، فهي أدوار متعددة، وهي كما يأتي:
الابنة المظلومة التي يقع عليها ظلم والدها فيؤخّر زواجها إلى ما بعد زواج شقيقتها الكبرى، ثم يأتي المحتل فيسلبها هذا الأمل، وهذا هو دور فاطمة في قصة “صندوق العروس”.
تكبر فاطمة وتتزوج، فتلعب دور الزوجة الودود الناصحة الداعمة لزوجها، والأم الحنونة المحبة لأولادها تتجلى هذه الشخصية في عدة قصص هي: “العتال”، “الموت بالتقسيط”، “عبد الرحيم”، “مازال البحث جاريا”، “سنسقط جميعا”، “الكيس”، “المهم صالح”.
تدور عجلت الزمن، وتكبر فاطمة أكثر، فيموت عنها زوجها، فتلعب دور الأرملة المكافحة، والوفية لذكرى زوجها، المحبة له والحريصة على أبنائها رغم عقوقهم لها. يظهر هذا الدور في قصة “فاطمة حتى التعب” حيث تلعب دور الخياطة التي تكافح من أجل لقمة العيش، وقصة “العيد” التي تصوّر وفاءها لزوجها بعد موته.
وقد قدّم القاص فاطمة كمحبوبة أبعدتها الأقدار عن حبيبها الذي ما انفك يصطلي بنار الشوق والهجران، وهذا حالها في قصة “الناي”.
وفي قصة “غريب” كانت فاطمة المحبوبة المتوفاة، التي فاضت روحها إلى بارئها ولكن حبها ما زال يبسط سطوته وهيمنته على قلب حبيبها أنها الحاضرة رغم الغياب.
كما وكانت فاطمة المحبوبة التي يراها حبيبها في كل النساء الجميلات، فعندما انتهى العاشق الرسام من رسم امرأة جميلة كانت تجلس قبالته في أحد المقاهي، قدم لها الرسمة، فابتسمت الجميلة، وقالت:” هذه ليست صورتي سيدي”. تفاجأ الرسام، ونظر إلى الصورة وأخذ يتأمل فيها، فاكتشف أنه قد رسم صورة حبيبته فاطمة، جميلة الجميلات.
ثيمة “التعب” خيط لاظم يجمع بين كل قصص المجموعة، لذلك يمكن اعتبار هذه المجموعة القصصية رواية ما بعد حداثية، ولكن وجود شخصية فاطمة في جُلّ القصص، جعل المجموعة تقترب من جنس أدبي آخر. لو اشتغل القاص أكثر على مجموعته وجعل من فاطمة الشخصية الرئيسة في كل القصص، لتحولت هذه المجموعة القصصية إلى متتالية أو متوالية قصصية، وهي لون سردي هجين يقع على الحدود بين المجموعة القصصية والرواية، ففيه من المجموعة القصصية اجتماع قصص مستقلة بذاتها، لكل قصة منها مقدمة، وأحداث صاعدة متنامية، وعقدة، وأحداث هابطة نحو الحل، ونهاية. وتأخذ المتتالية القصصية من الرواية ترابط القصص مع بعضها، ويكون هذا الترابط ناتجا عن وجود بطل واحد أو شخصية رئيسة تظهر في كل القصص، أو بسبب قصة إطارية تجمع كل القصص ضمن إطار واحد، ضمن قصة واحدة جامعة.
وهكذا تكون فاطمة شخصية ديناميكية تتطور جسمانيا ومعنويا، تدور مع عقارب الساعة، وذات حضور بارز في معظم القصص. أحيانا تكون فتاة، وأحيانا أخرى امرأة متزوجة وأُمًّا، وفي بعض الأحايين تكون أرملة. في بعض القصص هي حية تكافح، وفي بعضها الآخر ميتة غائبة عن العين حاضرة في القلب. فاطمة بنت البادية والقرية والمدينة، العاشقة لزوجها وأولادها ووطنها، فاطمة هي كل النساء الفلسطينيات الطيبات اللواتي يعشقن فلسطين، ويعشقهن الوطن حتى التعب.