المفكر المصري عمار حسن اديب: لا تخلو أية ثقافة معاصرة من نزعة أصولية
الشعب نيوز:-
فكرة السردية ليست متعلقة بشعب أو مجموعة قومية دون أخرى
الرواية صارت أداة مهمة بعد قرون كان حمل فيها الشعر المعرفة العربية
طوفان الأقصى أربك النخب العرببة حيال قضاياه المحلية
مصر قادرة على هضم كل ما ورد إليها
حوار سليم النجار
المقدمة:
تلهث الدروب ما بين مبتدئها ومنتهاها، لهاثاً محموماً، تشفق عليها منه الثوابت التي تحف بجانبيها، شجرة زيتون عتيقة مهجورة، تثمر وتسقط ثمارها في فيء ظلها.
حين ينالني التعب في منتصف المسافة، أتلهى بمراقبة ظلي على الشريط الأسود الطويل. فإذا بالشمس والقمر معاً على حافة الحوار مع د/ عمار حسن.. فيغمرني بكلمات حواره كوهج شمس النهار٠
د/ عمار حسن أديب ومفكر عربي مصري، له 60 كتابًا عبارة عن 14 رواية، و8 مجموعات قصصية، وديواني شعر ومسرحية، وكتاب في السيرة الذاتية، وكتب في النقد الثقافي وعلم الاجتماع السياسي.
تُرجمت بعض أعماله العلمية والأدبية إلى لغات عدة، ونال عنها جوائز كبرى عدة.
س: يُقال إن الأصولية وعي عربي بامتياز إلى أي مدى دقة هذه المقولة؟
ج: لا تخلو أية ثقافة لأمة معاصرة من نزعة أصولية، إما في سياق البحث عن الجذور، أو الاعتقاد في طهر الماضي البعيد أو السحيق، أو محاولة استعادته كنوع من التمركز حول الهوية، أو استعارته لخدمة الحاضر أحيانًا بشكل لا يخلو من تلاعب وتدليس وتلبيس، أو توهم كمون الحل فيه بالضرورة. لكن هذه النزعة تختلف نسبتها من أمة لأخرى في زماننا، ونسبتها في الوعي العربي الراهن أكبر من اللازم، والأخطر هو وقوعها في فخ إضفاء طابع مقدس على التاريخ، وعلى أقوال بعض البشر وأفعالهم.
س: أصابت أحداث طوفان الأقصى العديد من النخب الثقافية العربية بالذهول والإرباك، هل صحيح هذا؟
ج: جاءت هذه الأحداث لتجد النخبة العربية نفسها في ارتباك حيال قضاياها المحلية، وكذلك القضية الفلسطينية، بوصفها قضية العرب المركزية، أو هكذا يراها كثيرون. وأعتقد أن هذا الارتباك قد زاد بعد اتفاقية أوسلو، وأخذ جرعة إضافية من السموم إثر انقسام الصف الفلسطيني، وإثر كل ما ترتب في ركاب الربيع العربي من استقطاب سياسي بين ثورة وقوى مضادة لها، وبين تيار مدني وآخر ديني. ومع “طوفان الأقصى” توزع الارتباك بين خوف من المآلات السلبية الصعبة، وطمع في النتائج الإيجابية المحفزة، وحيرة مفزعة بين الاثنين.
أما الذهول فجاء من قدرة الفلسطينيين على وضع العالم أجمع، وليس العرب فقط، أمام سؤال محوري، لا يخلو من مفاصلة بين الذين مع والذين ضد، ومفاضلة بين جدوى المقاومة المسلحة والمقاومة السلمية، أو من يؤمنون بالنضال الأفقي الذي يأخذ وتيرة لا تضع الفلسطينين في خطر داهم وتعرضهم لنكبة جديدة، وبين النضال الرأسي الذي يقوم على المسارعة بالتصعيد المسلح في ظل عدم تكافؤ القوة العسكرية.
س: فكرة السردية ليست متعلقة بشعب أو مجموعة قومية دون أخرى، وليس غريبًا أن نقرأ “إنما الإمم السرد”، ضمن هذا السياق: هل هناك سردية عربية تجاه صراعنا مع
“اسرائيل”؟
ج : هناك أكثر من سردية عربية، واحدة تلبس لبوسًا دينيًا، يضع الصراع ضمن معادلة تاريخية حول الإسلام واليهودية، أو بمعنى أكثر دقة بين واحدة من الروايات أو السرديات الإسلامية وأخرى يهودية. والثانية تضع المسألة برمتها ضمن الصراع بين الغرب الاستعماري الذي تمثل إسرائيل رأس حربة له، أو نقطة تمركز له في منطقة الشرق الأوسط وبين قوى نازعة إلى التحرر الوطني واستقلال القرار ورفض التبعية. والثالثة تراه صراعًا بين عنصرية كامنة في الصهيونية وبين البحث عن التفاعل البشري الخلاق القائم على المساواة واحترام الآخر وقبوله. أما الرابعة فترتدي زيًا إنسانيًا وسياسيا حداثيًا، فترى الأمر برمته مرتبطًا بالتحرر الإنساني، الذي يجب أن يدفع الناس في مشارق الأرض ومغاربها، بصرف النظر عن اختلاف الأديان والمذاهب والأفكار والتوجهات السياسية، إلى نصرة شعب يقاوم ضد احتلال استيطاني، لم يعد له مثيل على وجه الأرض.
س : هل تتحكم الأيدلوجيا في جميع تكوينات الحقل الثقافي العربي؟
ج : هي تتحكم في جزء من تكويناته، ولم تخل الثقافة العربية الراهنة من أثر تخفيف حضور الأيدلوجيا في العالم بأسره، في ظل تراجع حضور السرديات الكبرى، واكتشاف كثير من المثقفين لعماء الأيدلوجيا وجمودها وتكلسها وبؤسها.
ابتداء، فأنا من الذين يؤمنون بأن كل إنسان يجب أن يكون له إطار يحيل إليه، أو نقطة مركزية ينطلق منها. هذا مفيد للفهم والتفسير والانتماء وتحديد المكان والمكانة، وانتظام السجال والجدال على أساس ما، لكني من الذين دعوا إلى ألا يكون هذا الإطار أيديولوجيا مصمتة عمياء، إنما منظومة قيم تتعانق فيها الحرية والعدل الاجتماعي والكرامة الإنسانية، ويكون إعلاء مبدأ المواطنة إحدى غاياتها الكبرى، أو منبع قراراتها وإجراءاتها وقوانيها ودساتير واتفاقياتها الدولية.
ج : هل صحيح أن ثورات الربيع العربي انقلبت من قضية لمجرد حدث؟
ج : القضايا التي اندلعت هذه الثورات في ظلها، والأهداف التي سعت إليها، لا تزال قائمة، لكن المسارات التي اندفعت إليها هذه الثورات، بما جعل قوى الثورة المضادة تتسبب في تعثر المسار الثوري أو إجهاضه أو تحويله إلى فرصة لاستعادة الاستبداد والفساد مواقعه ومواضعه. هذا جعل بالطبع المقاربة تهبط من حديث عن قضية أو غاية كبرى إلى حديث عن أحداث، لم تتبلور مآلاتها بشكل كامل حتى الآن، رغم أن هناك من بيننا الذين يظنون عكس ذلك.
س : هل تُعد الرواية الحديثة إحدى أدوات المعرفة القائمة على حركية الفكر والنزوعات البشرية والتحولات في جوانبها الأخلاقية والجمّالية في عالمنا العربي؟
ج : صارت الرواية الآن أداة مهمة في هذا، بعد قرون طويلة كان فيها الشعر هو حامل المعرفة العربية، ومعه بالطبع التحليقات والتجليات التي جادت بها الصوفية، والجدليات والإقرارات والتصورات التي حملها الفقه، والمحاولات البرهانية التي قامت على أكتاف الفلسفة.
اليوم صارت الرواية هي “شعر الدنيا الحديثة” حسب عبارة نجيب محفوظ التي رفعها في وجه عباس محمود العقاد، وصار الجيل الجديد يبحث فيها عن المعرفة، وعن سبل تحديد الرؤية والتصور، وتعيين الموقف والاتجاه.
استيقظت الرواية لتصبح الأداة الأسرع انتشارًا، لكن الحياة الثقافية العربية الآن، وربما في العالم كله، تعود مرة أخرى لتلبي شغفها بالمعرفة، وتبني تصوراتها، عبر الكتب الفكرية والسياسية والدينية. مع هذا تظل الرواية قادرة على منح التصورات الفكرية طابعا تعدديًا، من خلال تعدد شخصياتها وحواريتها ونهاياتها المفتوحة وإعطاء فرص حقيقة لتمثيل المختلفين، وهذه مسألة يحتاجها التفكير العربي بشدة.
س ؛ هل هناك رواسب إفريقية في الثقافة الشعبية المصرية؟
ج : مصر بلد تقع جغرافيًا في أفريقيا، حدودها فتحت ذراعيها عبر التاريخ على الاتجاهات الأربعة، وتلقت الثقافات الواردة إليها من كل مكان، لا سيما أن مصر هي مركز العالم القديم، وكانت مقصدًا لكل من أراد إقامة إمبراطوية تتسيد الأرض، وكل من هرب من عسف وظلم وضيم هناك وهناك. والأفارقة، سواء جاءوا من الغرب أو الجنوب، ليسوا استثناء في هذا كله، شأنهم شأن الأوربيين والآسيويين، وما يزيد من مكانة الثقافة الأفريقية لدى المصريين أن واهب مصر وهو النيل قادم من أفريقيا، وكثير من الأسرات المصرية القديمة امتد سلطانها إلى منابع النيل، وهناك أسر فرعونية جنوبية.
مصر كانت ولا تزال قادرة على هضم كل ما ورد إليها، ولا سبيل لتسيد صوت يعلو الآن ويحتد، ويريد أن يحيل مصر كلها إلى ثقافة أفريقية، فهذا صوتي استبعادي، ويفتئت على الحقيقة التاريخية. كما لا يوجد فائدة من عناد مضاد ينكر أن الثقافة الأفريقية قد تسربت إلى المأثور الشعبي المصري، وصارت ضمن سبيكته الثرية جدًا.
س : قتل مفهوم البطل – منظور فكري يخلق نمط بنية في القص العربي المعاصر كانت تداعياته على الوعي السياسي العربي ما رأيك بهذه المقولة؟
ج : ربما الوعي الأدبي بطابعه الإبداعي والمتمرد، أو التصور الراسخ في اللاشعور، يسعى إلى تجاوز مفهوم البطل، أو حتى قتله، بعد أن سكن طويلًا الأساطير والحكايات الشعبية والملاحم العربية، وكذلك الحقب التاريخية التي زاد فيها الإيمان بالفرد المخلص في منطقة ظهر فيها الأنبياء الذين نؤمن بهم. ربما تعزز هذا الوعي لأن حصاد الاتكاء والاتكال عليه كان مرًا، حينما هبطت البطولة من الأنبياء والأولياء إلى قادة الحرب والسياسة. فالآن أدرك كثيرون أن صناعة التاريخ، أو تحصيل النهضة، لا يجب أن تعلق في رقبة شخص، في زمن يتحدث فيها الآخرون بكل ثقة واقتدار عن تأثير النخبة أو الصفوة أو الطبقة، وعن اعتبار المؤسسة، في انتظامها وانضباطها وتكيفها ومرونتها وحيويتها وقدرتها على المراجعة والتصحيح، واهبة التحديث.
س : كيف تقرأ مقولة كتابة الرواية ما فوق الواقع؟
ج : أقرأها في إطار رفض أن تكون الرواية مجرد انعكاس للواقع أو مرآة له، فمثل هذا يجافي حقيقة تعطي الخيال والتخييل قدره في صناعة النص الروائي، وتجعل من حق الكاتب أن يضيف إلى الشخصيات التي يستلهمها من الواقع، أو يخترع شخصيات من عنده، أو يرسم ملامح واقع آخر، أو بمعنى أدق يبنى عالمًا موازيًا، سواء كان ينتمي إلى اليوتوبيا أو الدستوبيا، وكلتاهما تكونان في كثير من الأحيان رافضتين للتساوق مع الواقع أو الاستسلام لشروطه القاسية.
لقد علا صوت المرأوية أو المدرسة الانعكاسة في عالم النقد الأدبي سنينا، لا سيما في ظل “الواقعية الاشتراكية”، لكن النظرة الأكثر عمقا التي تسكن نظريات نقدية جديدة تجاوزت هذا كثيرًا، حتى لو لم تنكر دور السياق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي في صناعة النص.
س : كيف تعلق على أن الحوارات بجميع أشكالها الثقافية والعلمية والسياسية هي في الأساس مناوشات فكرية تنطوي على فضول مقبول؟
ج : بعضها كذلك بالفعل، فالفضول فيه شغف، والشغف أحد شروط المعرفة، وهو سبب مهم جدًا لتراكمها وتطورها. لكن واقعنا لا يخلو من استثناءات ملموسة، تجاوز أصحابها استعمال الأفكار كقلائد زينة، أو منازلات فكرية أشبه بالمسابقات الخفيفة التي لا تخلو من تهريج ومباهاة فارغة، أو مادة استعمالية لقنص شيء في الصراع السياسي المستمر، وطرحوا الأسئلة الجوهرية حول شروط التقدم والنهضة، وحاولوا الإجابة عنها من خلال نقد السائد والمتاح من الموروث القابض على العقول، وإبداع مقاربات حاولوا بها أن يحسنوا شروط الحياة، ويأخذوا بأيدي الناس، كي يتقدموا إلى الأمام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
نبذة … عمار علي حسن، أديب ومفكر مصري، له ستون كتابًا عبارة عن أربعة عشرة رواية، وثماني مجموعات قصصية، وديواني شعر، ومسرحية، وكتاب في السيرة الذاتية، وكتب تحوي نصوصًا سردية، إلى جانب كتب في النقد الثقافي وعلم الاجتماع السياسي.
تعد حول الأعمال الأدبية للكاتب عشرون أطروحة جامعية داخل مصر وخارجها، وكتبت عنها عشرات الدراسات النقدية، وتُرجمت بعض أعمال العلمية والأدبية إلى عدة لغات، ونال عنها عدة جوائز كبرى.